إنقاذ ‘المالوف’ التونسي حفاظ على وجدان شعب

فاروق يوسف

هناك في تونس مَن يفكر في إنقاذ “المالوف” من الاندثار والزوال. والمالوف لمَن لا يعرفه هو الإرث الغنائي الذي انتقل من الأندلس إلى بلدان المغرب العربي ومنها تونس.

وبسبب تنوع واختلاف حواضنه الثقافية فإن المالوف التونسي قد اكتسب صفات كثيرة من المزاج التونسي جعلت منه غناء محليا، فيه من الروح التونسية ما يُنسي صلته بالأصل، بالرغم من أن القواعد ظلت واحدة.

أشبه بالمعجزة

ما من شك في أن الجزء الأعظم من الوجدان التونسي يكمن في “المالوف” بشقيه الديني والعاطفي. لذلك فإن محاولة الحفاظ عليه، تنطوي على رغبة مخلصة في الدفاع عن الجوهر الأخلاقي لشعب وجد نفسه فجأة في مواجهة المشكلة عينها، التي تعاني منها شعوب عربية عديدة وهي مشكلة الحكم. وما أنجزه الشعب التونسي في هذا المجال ليس قليلا.

لقد كادت ثورة الياسمين التي فتحت الطريق أمام عدد من الشعوب للانزلاق بها إلى هاوية الربيع العربي، أن تسقط في فوضى التجاذب بين الإسلاميين وجماعات اليسار، ذات التوجه العقائدي المغلق على نظرياته.

وكما ابتكر الإسلاميون أدواتهم في بث الرعب في قلوب الناس العاديين من خلال السماح لمجموعات متطرفة بالقيام بغزوات بدائية فإن اليسار الطفولي الذي لم يكن موحدا، قد اختار التشدد في مواجهة استحقاقات اللحظة العصيبة والحساسة التي كانت البلاد تمر بها.

كانت الفوضى ممكنة لولا أن الشعب التونسي أدرك بعد ثلاث سنوات من حكم حركة النهضة أن تلك الطريق لن تقود إلا إلى العنف، الذي لن يكون حلا تونسيا بالضرورة. لذلك أنجز بذكاء ما لم تنجزه الشعوب العربية الأخرى. فهو حين اختار أن ينصف ثورة الياسمين من خلال الحفاظ على جوهرها الذي يكمن في التغيير، فإنه لم يخن أهداف الثورة حين أجلها إلى ما بعد الاستقرار. لذلك لم يخسر التونسيون ما خسرته الشعوب الأخرى التي عبثت رياح الربيع العربي بكل شيء يمت إلى روحها بصلة. لذا فإن سعادة التونسيين لا توصف وهم يجدون متسعا من الوقت لمحاولة إنقاذ غنائهم الأصيل، وهو شيء أشبه بالمعجزة يقع في هذه البلاد الصغيرة.

ما أبقاهم أحياء

لو أن عراقيا تحدث اليوم عن ضرورة جمع المقام العراقي لاتهم بالجنون، ولو أن سوريا قال شيئا إيجابيا عن صباح فخري لاتهم بالخيانة، ولو أن يمنيا تمنى أن تستعيد بلاده قدرتها على أن تهب العالم مطربا بحجم أبوبكر سالم لاتهم بالنفاق. لقد غدرت شعوب عربية بتاريخها حين أخضعته لمشيئة سياسيين هواة ومغامرين، لم تكن البلدان التي دمروا جمالها بسياساتهم لتستحق ما فعلوه بها. غير أن صمت تلك الشعوب كان بمثابة الملهم الأول للجريمة.

ألا يؤسس إخلاص التونسيين لشجرة الزيتون مقارنة بخيانة العراقيين لنخلتهم درسا أخلاقيا في مجال التربية الوطنية؟

لدى التونسيين أشياء كثيرة يهتمون بها غير السياسة من أجل أن تبقى بلادهم حية. وهو ما أبقاهم أحياء في بلاد لا يغادرها الأمل. “المالوف التونسي في خطر” يقول لك كما لو أنه يود أن يخبرك أن البلاد في خطر، وهو محق في ذلك. فالشعوب التي تفرط في مفردات وجدانها يمكنها بيسر أن تنزلق إلى هاوية التخلي عن أوطانها.

ليست الهوية هي المشكلة. ولكن المشكلة تكمن في علاقة البشر بمزاج بيئتهم. هو مزاج لا يمكن استعادته أو إعادة إنتاجه أو اختراعه، إنه الروح الحية التي لو تمّ وأدها فإنها لن تستجيب لمحاولات إحيائها.

من هذا المنطلق فإنني أرى في محاولة إنقاذ المالوف التونسي نوعا من العرفان لشعب قرر أن يقاوم الفوضى. ذلك الشعب يستحق أن يغني بجمال ورفعة المفردة الأندلسية.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى