واحة الراهب تنظر إلى العالم من نافذة الألم

أسامة حبشي

الروح المغتربة في فضاء لا منتاهٍ من الذكريات، لهي روح منحوسة تتخذ من الألم نافذة لفهم الواقع، بغرض التكيف مع ذلك الواقع المر، وأيضاً نافذة للخلاص من الخيانة والمؤامرات والوجع. هذه الروح المتعرية باغترابها وانكساراتها كانت مدخلاً للسرد الذي هو أشبه بالهذيان، في رواية الكاتبة والمخرجة السورية واحة الراهب؛ «مذكرات روح منحوسة» (دار العين).
تعترف الراوية منذ البداية بضياع الطرق كافة التي اتخذتها للوصول إلى ذاتها. الدروب كافة أفضت بها إلى متاهة الألم، كأن ذلك الألم هو ما تبقى من روحها. في قاع ذكرياتها ومضات خافتة من السعادة، لذلك يقف الألم بالساردة على أطلال، فيتدفق السرد كالشلال: «لا يزايد أحدٌ عليَّ أو يحاول إقناعي بخرافة ما أقول، وأن الأرواح مجرد خزعبلات لا منطق علمي يؤكدها، ربما هذا صحيح، ولكن لا منطق علمياً أيضاً يدحضها».
«مذكرات روح منحوسة»، هي رواية تنتمي إلى أدب الاعتراف، أو السيرة الذاتية، فهي تهيم في التفاصيل صعوداً وهبوطاً في كل ما يحيط بالراوية وأيضاً في ما يحيط رأسها من أفكار. ولا شك في أن وصف تلك الروح بالمنحوسة كما في عنوان العمل لم يكن مصادفة وإنما كان تأكيداً لمصائرها ومصائر من حولها سواء على مستوى العائلة أو الأصدقاء.
هي روحٌ تبحث عما لا تجده كأننا أمام مسرحية صمويل بيكت الشهيرة «في انتظار غودو». ولكن، غودو هنا هي الذات الضائعة في غياهب السنوات التي تمر عليها من دون رحمة: «يا لغرابة الحياة على وجه هذه البسيطة، الممغنطة لأجساد البشر بتلاصق لا انفصام فيه بفعل الجاذبية الأرضية العجيبة بينما هم يحلقون بأحلامهم ويطوفون بأرواحهم نائين عنها نحو الفضاء الرحب البعيد. كم هى قادرة على استهلاك طاقتهم في اللاجدوى».
وإذا كان البكاء على الأطلال سمة عربية بامتياز، فإن رواية واحة الراهب هي بكائية طويـــلة؛ ليس فقط على مستوى الساردة، وإنمــا على مستوى المنطقة العربية. فنحن نرى سقوط بغداد تحت القصف الأميركي، وأيضاً توارث السلطة في سورية، وصولاً إلى ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن، وسورية التي شهدت اعتقال ابن الكاتبة وانخراط الساردة في السياسة التي كانت تتعمد الابتعاد منها… «لقد مرت خمس سنوات على بدء الثورة التى ما زالت تقاوم رغم انحسار التظاهرات، ورغم تكالب العالم أجمع لدعم النظام على إجهاضها».
رواية واحة الراهب من الممكن القول عنها أنها سيناريو لنص سينمائي بالأساس، لذا وجدناها تعتمد على التنقل من لحظة إلى أخرى ومن حدث إلى آخر بمنطق النقلات التي تتسم بالتتابع الهادئ حيناً، وتتحول إلى قفزات في أحيان أخرى. تعتمد الكاتبة أيضاً، على الدقة في وصف التفاصيل، فتقترب من السينما كثيراً، فثمة شخوص تظهر وتختفي كأنها ومضات، لكنها من حيث النسق السردي ومن حيث مستوى تأثيرها في الساردة، تعد شخصيات لا يمكن حذفها ولا يمكن أيضاً الغوص فيها أكثر مما قيل عنها في العمل. من هنا، نجد أن الكاتبة استفادت من عملها كمخرجة وكاتبة للسيناريو في كتابة هذا النص الهذياني الأليم، الذي يعد بمثابة الطَرق على أبواب الوجع من أجل مقاومة الخوف والكبت والانكسار. هي رواية تنطوي على محاولة إنهاض مارد الذات… «لقد نهض المارد وانطلق من قمقمه في رحلة استعادة حرة للذات والوطن قد تطول وقد تصعب، لكنها لن تحدث ما هو أسوأ مما حدث! فهل يعقل أن يقبل إعادته وخنقه في القمقم من جديد؟ أشك في ذلك».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى