السورية «ليندا عبد الباقي»: الشعر الحقيقي تمرد على اللغة ووظيفته كشف المجهول

صالح الرزوق

ظهر اسم الشاعرة السورية «ليندا عبد الباقي» في العام 2008 مع صدور مجموعتها الأولى «وردة النار». وسرعان ما تبعتها مجموعات تالية أضافت للتجربة الأولى عمقاً وتفصيلاً لهمومها الأنثوية، سواء في «صهيل صمتي» أو«أغنية لمساء أخير» و«يخاصرني الاخضرار». ومع أن كل القصائد مكتوبة بضمير المتكلم مثل أدبيات سالمة صالح ومحمد الماغوط، إلا أنها اهتمت بالتنويع في الأسلوب والمضامين. فهي إلى جانب قصيدة النثر تكتب التفعيلة والشعر الموزون والمقفى. وبمناسبة صدور طبعة جديدة من مجموعاتها كان لنا معها هذا الحوار ..
■ تجربتك الشعرية تعتمد القصائد القصيرة ومتوسطة الطول، هل يكمن السبب في إيقاع الحياة اليوم، أم لضرورات النشر؟
□ ربما الاختزال وإيصال المعنى بأقل المفردات سمة من سمات الشعر، تحميه من السرد والترهل. وقد أطلق عليّ سابقا من قِبل مجموعة من الصحافيين اسم «شاعرة الومضة». المهم البقاء في جوهر الشعر باقتصاد لغوي ولغة كثيفة تحمل عناصر الشعر الأساسية، فوظيفة الشعر هي محاولة كشف المجهول لا التعريف بالمعروف والتشبع بالجمال. ربما متطلبات الحياة في عصر السرعة والابتعاد عن الكتاب والكاتب اقتضت هذا. أما بالنسبة للنشر فقصر النص ضروري في عصر العالم الافتراضي.
■ معظم مفرداتك تنتمي للغة الفصيحة، هل يعود هذا إلى نوعية القراءات؟ أم أنه يعبر عن موقف خاص من أسلوب الحياة المعاصرة؟
□ نحن ننتمي شئنا أم أبينا للحياة المعاصرة. لكن لا بد من لغة شاعرية، ومفردات الشاعر تمنحه هوية شعرية لذا يمتلك الشاعر شبكتين .. الأولى للحياة يصطاد فيها أغنى اللحظات وأكثفها وأشدها تعبيرا، والثانية هي لغته يصطاد بها أجمل الكلمات وأعذبها وأكثرها شاعرية. وأجمل هياكل التشكيلات اللغوية المعبرة الجديدة المطابقة بين لحظة جميلة وجملة جميلة، لأن الشاعر يسوق الحياة باللغة ويصنعها من جديد ويسوق اللغة بالحياة ولا يستهلكها. والشعر الحقيقي هو التمرد على اللغة ليقول ما لم تقله اللغة ولينقذ الشعر من السقوط المحتمل، فهو منطقة الحظر في اللاوعي ومنطقة الشرارة في اللغة.
■ نلاحظ نبرة حزينة في جميع نصوصك، هل هذا مرتبط بالواقع الاجتماعي؟ أم يعود إلى تجربة خاصة؟
□ ينتقل الشاعر في كتابته من الهم الذاتي إلى الهم الجمعي، ونحن شعوب زادنا الألم والحزن حتى بتنا نتغنى به حتى لا نخون ذاتنا ونزيّف الحقائق هذا قبل الأزمة. وحين جاءت الأزمة بكل هذا القتل والتشرذم والدمار والدماء عمقت هذه الحالة وأصبح الدمع خبزنا اليومي. امتزج الدم بالدمع حتى ضجر التراب.
■ تعددت الأجيال الشعرية في سوريا، من الرومانتيكية وحتى القصيدة النثرية في الثمانينيات وما بعدها، كيف ترين تجربتك بين هذه التيارات والأصوات.
□ كتبتُ كل أنواع الشعر، الشطرين والتفعيلة والنثر والومضة، لكن لا بد من مواكبة التطور والمشي مع تيارات الشعر الجديدة. لذا كتبت قصيدة النثر بتواترات الوجود الناعمة التي كسرت المطلق وراح يلمع الشعر بين طياتها. وبدأ مثيرا وأخاذا ونزل الشعر من أبراجه العالية، حيث ارتفع عن الوزن والقافية والبلاغة والفقة اللغوي، البعيد عن متطلبات حياتنا، إلى شحذ الخيال وتخصيبه والتشبيه والاستعارة والكناية والبناء المدهش لقصيدة النثر، بعيدا عن عكازة الوزن وما نسميه بالموسيقى العروضية والقافية، ليأخذ شكلا هندسيا له موسيقى داخلية. فالشعر ثرثار وهزيل إذا افتقد جرسه الموسيقي والصورة، وبين مشاعري وقصائدي مشيمة لا تسقط، تتسرب بينهما الروح.
■ كيف تنظرين لواقع الشعر العربي والعالمي، وما هو الجديد فيه؟
□ بالطبع كأي شيء موجود في حياتنا نتأثر بالغرب ونقلد الغرب، لكن الغرب لا يتأثر بنا. وهذا حال القصيدة والترجمة، وحال الشعراء. نحن نتخلى عن هويتنا الشعرية العربية، وكثيرا ما نميل للشعر المترجم، لكن حسب متابعتي لما ترجم أجد أن الشعر العربي يعتمد على الصور العميقة والرمزية المغرقة، والغربي يعتمد على البساطة والمباشرة. وتعمقت حالة التلاقح الثقافي من خلال شبكات التواصل الحديثة وتقاربت المسافات. ومن إنجازات وسائل التواصل بالنسبة لي موسوعة الشعراء العالميين لخمس قارات لمحمد صالح بن عمر، حيث ترجمها للفرنسية وطبعت في فرنسا، وكان اسمي الثاني في الموسوعة وسيرتي الذاتية وبعض قصائدي.
■ من هو الصوت الشعري المفضل لكِ؟
□ أعتقد أنه بعد هذه السنين منحني الشعر هوية وباتت قصيدتي تنتمي إليّ دون التأثر بشاعر محدد. لكنني أحببت جبران كثيرا لفلسفته الخاصة ومفردته الأنيقة، وما بين سطوره معان أكثر من السطور نفسها، وهناك ما يهذب الروح ويريح النفس ويتوج إنسانيتنا.
■ أنتِ من السويداء، لكن لا توجد أي إشارة لها في شعرك، هل هو الاهتمام بالتجربة الذاتية فقط؟
□ التغني بحجارة السويداء الصلبة القاسية لا يتناسب مع مفرداتي الشعرية الرهيفة، لكن تغنيت كثيرا بالكرمة والعنب والنبيذ، لأنه يكمن فيها عالم سحري وشاعري. وأنا معك أن الشعر هو ابن البيئة، لكني كثيرا ما كتبت عن النخيل لشموخه وعن البحر وأعماقه وأشرعة قواربه وشطآنه، وأنا ابنة الجبل.
■ هل توافقين على أن احتجاج المرأة على الواقع يكتفي بالانكفاء على الذات، هذا ما ألحظه في قصائدك، فهي احتجاج على أشياء صغيرة وغير محددة؟
□ هذا تابع لثقافة المرأة وعالمها، خاصة إذا كان محصورا في أربعة جدران، لكن الوضع اليوم مختلف جدا، وأنا مثلك لا أحب التصنيف بالشعر، لكن بسبب كينونة المرأة وتركيبتها الفيزيولوجية ربما تكتب بعاطفة صادقة أكثر، خاصة إذا أعطت إجازة للشرطي في داخلها خلال الكتابة. فالشعر سلاح المرأة في معركة السجال الثقافي، والسلاح الأهم هو ثقافتها ووعيها وذكاؤها الذي يصقل شعرها ويكوّن شخصيتها التي تغرد داخل السرب الثقافي بكل عنفوان. وما دون ذلك طفرات أو فقاعات تصعد بأنفاس الآخرين وتسقط بزفراتهم. وهذا الوجه المشوه للشعر. ومع هذا هناك أسماء نسائية جدا مهمة في عالم الشعر العربي والسوري تحديدا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى