التشكيلية السورية هبة الأنصاري واللامنطق في حساب الحرب

رند صباغ

لا يشبع فضولها الفراغ المغلق، فتراها تبحث عن فضاءاتٍ جديدة بعيداً عن نخبوية الصالات، لتتفاعل مع جمهورٍ مختلف، سواءً كان عابراً في غابةٍ ألمانية، أو أمام بيت مدمر وسط كفرنبل، أو مجرد متصفحٍ سريع لصفحات التواصل الاجتماعية، «فكل الأماكن تصلح للفن»، هذا ما تراه التشكيلية السورية هبة الأنصاري، التي امتازت بأعمالها ضمن مجال الفنون المركبة متحديةً النمطية نحو مجالاتٍ أوسع وأشمل، فالفن بالنسبة إليها يفتح الأسئلة، وليس على الناس أن تكون جاهزة لفهمه، فكل يرى العمل بطريقته ويطرح أسئلته، وهنا تكمن قوة الفنون المركبة كما تراها.
تنتمي الفنانة إلى ثلاثة عوالم متباعدة، الطفولة في ليبيا، والحرب في سوريا، والمنفى في ألمانيا، ثلاثة عوالم شكلت هويتها. جذبها الفن منذ الطفولة، بالأخص عندما كانت تراقب عمل والدها كخياط، فتشدها الحرفية والتعامل مع المواد، إلا أن اللوحة كانت تخيفها أكثر، فلم تكن متأكدة من إمكانياتها في البوح عما يخالجها من خلالها، إلى أن تعرفت على الفنون المركبة، ليشهد أول أعمالها النور عام 2011 ضمن فعاليات يوم المرأة في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق.

الواقع صادم بعينه:

صادمة في أعمالها، فموادها الأولية تتسم بالقسوة، سواءً في القوام أو في الرسالة، ترى أن ألمانيا غيرتها، «ساعدني التواجد في ألمانيا على مقاربة الصور الموجودة في مخيلتي بعدما وضعتني على مسافة من سوريا»، لتتخرج الأنصاري الأولى على دفعتها في كلية الفنون في ميونيخ الشهر المنصرم.
تستند في مشروع «وحوش الغابة» إلى القناع بشكل أساسي، حيث أن المشروع كان شكلاً من أشكال الكولاج التفاعلي، بالتعاون مع الإعلامي عامر مطر. فطبقت في شق الفوتوغراف من المشروع العديد من العناصر الحيوانية والعضوية المضافة للجسد البشري المزين والموضب بأشكال صارخة، لكنها تدافع عن هذه القسوة لأن: «الواقع صادم بعينه، فالرؤوس مقطعة، والأجساد مستباحة، والبيوت مدمرة، فهل من صورةٍ فنية قد تقارب بالصدمة مشهد أبٍ يحمل جسد طفلته التي فقدت رأسها؟».
وعن استخدام الجسد كعنصر أساسي واضح، تستحضر الأنصاري بدايات وجودها في ألمانيا وتحديداً في مدينة ميونيخ، حينما كانت تستفزها صور الأخبار التي تعتبرها «وقحة» في التعامل مع أجساد الموتى «المقطعة»، فأخذت تعمل على وجهها في المرآة، إلى أن انتقلت إلى فكرة تطبيق المشروع على الجسد الحي الهارب، لتشكل معه عملاً تفاعلياً وتركيبياً، اعتبرته شكلاً من أشكال العلاج الشخصي لها.
أما الشق الآخر الذي كان بعنوان «الديكتاتوريات الجديدة»، فاستخدمت خلاله الأقنعة بمحاكاة ساخرة لواقع مرتديها اليوم، حيث تضيف عناصر ذات بعدٍ جنسي تفسر فيه علاقتهم الدموية بالقتل والبحث عن الجنة، لتعمل على تفاصيل تلك الوجوه المخفية، حيث تركز على رسم الملامح باستخدام مواد «رخيصة» في الشرق الأوسط، التي غالباً ما ترتبط بالرقص الشرقي والتعري، مثل العناصر البراقة، في حين تحدد خلفية القناع بالأغطية القديمة المصنوعة من الساتان، التي تربطها بالمكان والبيئة، ليكتمل المشهد على شكل بورتريه، عادةً ما عرفه السوريون لبشار الأسد أو حافظ الأسد، لكن هذه الديكتاتوريات الجديدة مجهولة الوجوه، وتشير الأنصاري إلى أن «الشخصيات تبدو وكأنها التقطت صور (سيلفي) على الأسِرّة، لترسيخ الحالة الجنسية التي تحركها».

الفن زمن الثورة:

تشعر الأنصاري بأن ابتعادها الجغرافي عما يحدث في سوريا زاد من قدرتها على التعبير: «كانت ضرورة المسافة تكمن بما قدمته لي من نضج يضاف إلى العاطفة، حيث أن الحياة في ألمانيا هي النقيض التام، فالناس طبيعيون ويعيشون في سلام، في حين تظهر بقايا ذاكرة الحرب موجودة بشكل من الأشكال من حولهم حتى في صور الحياة، ما من شأنه التأثير بعملي وطريقة التعاطي التي انتهجها مع الأشياء». لكنها اتخذت خطوةً متفردة في فنها التجريبي، فاتجهت إلى بلدة كفرنبل في الشمال السوري في 2014، حينما كانت خارجة عن سيطرة النظام وقد تعرضت لتدمير كبير، وتسميها «عاصمة الفن في الثورة السورية»، فاتخذت من أحد الأبنية المدمرة فراغاً لتركيب عملها، إلا أن الأمر لم يخل من المخاطر الشديدة، سواءً من القصف والعنف الدائر في المناطق المحيطة، أو من المجتمع المحلي الذي لم يكن يتقبل هذا الأمر بشكل سلس، إلا أنها تعتبر تجربة كفرنبل دافعاً مهماً ومفصلاً رئيسياً.

رائحة الخوف:

علقت الفنانة أنوفاً من الخزف المصبوغ بالأصفر على الأشجار لتعبر عن رائحة الخوف في إحدى غابات ألمانيا، وهو ما شرحته «إن ثبات المكان، والحياة في الأشجار التي ربما عاصرت أجيالاً كثيرة، جعلتني أشعر بأني مكشوفة على نفسي، فاستطاعت الغابة استخراج صورٍ من رأسي، لمست ألمها وعرفت رائحة الخوف فيها». وتشير إلى أن اختيار الأنف بالإضافة لوظيفة الشم، كان لما يشكله من إغراء لها في شكله التشريحي والمقطع الهرمي بالثقبين الواضحين، فاختارت أنوفاً حقيقية قامت بطباعتها، وصبغتها بالأصفر الذي تراه دالاً على الموت، بالإضافة إلى وجوده في عالم الروائح السيئة بوفرة، أما جمالياً فكانت الدرجة التي اختارتها الأنصاري هي الأصفر (الشمسي) بهدف خلق عامل بصري من خلال التكرار على الأشجار التي علقت عليها العمل.

كتاب الرياضيات:

تحت ركام أحد منازل كفرنبل، استلقى كتاب رياضيات للصف السادس الابتدائي، حملته هبة الأنصاري معها إلى ميونيخ، «شعرت بالخوف، فتركته في الكيس مدة سبعة أشهر، كنت أشعر وكأني أتيت بجثة من سوريا، تجرأت في ما بعد على فتحه، فوجدت اسم فتاةٍ صغيرة على الكتاب، اسمها «نورا بزكادي»، اكتشفت لاحقاً انها استشهدت بالقصف»، كان الاسم مزيناً برسومات طفولية لا تشبه حال الكتاب الذي كان مضغوطاً من شدة الانفجار، إلا أن هذه التفاصيل استأثرت بالأنصاري، لتبدأ فكرة مشروعها الحالي «كتاب الرياضيات: إلى نورا بزكادي».
بدأت الفنانة في تحويل عالمها، المواد الأولية، الكتل والفراغ، كل شيء صار جزءاً من معادلات رياضية، وعنها تقول: «استخدم المنطق بشكله اللا منطقي من خلال الرياضيات، كما هو الحال مع انعدام المنطق في حياتنا اليوم، حيث لا شيء واضح… كثافة الجنون قد تودي بنا إلى العدم»، وتستند الفنانة في عملها هذا إلى ثلاث مواد رئيسية، الوثيقة (الكتاب الورقي)، والحديد (أدوات المطبخ)، إضافة للاسفنج مع الإسمنت، وعن اختيارها لهذه المواد تقول: «بحثت عن المواد التي تحتاج إلى التعامل بقسوة مثل التقطيع والتسخين، فإن كان الإسمنت مادةً قاسية، إلا أن الحديد يطاوعك بالعمل تحت الحرارة، في حين نرى ليونة الاسفنج وبساطته».
يظهر الحديد بشكله الرئيسي عن طريق استخدام أدوات المطبخ، التي قامت الأنصاري بإلغاء وظائفها بشكلٍ قاسٍ، فأتلفتها وتركتها حادة وجارحة دون تشذيب، وتقول، «أجرح موادي وأبني عليها معادلات بأرقام غير صحيحة، أقطّع السكاكين وارميها في فراغ أسود»، ركزت الفنانة في هذه الناحية على خلق الصدمة رغبةً منها بملامسة المتلقي ودفعه للتفاعل مع العمل، فلا تنفك تكسر المواد القاسية بأخرى مهذبة تجدها عند تحويلها إلى أشكالٍ هندسية، محافظةً على عنصر الألفة المرتبط بأدوات المطبخ كعناصر أساسية في أي منزل، وتشير: «أحاول هنا خلق التناقض، من خلال بتر وتخريب هذه الأدوات، لتتغير وظائفها اليومية لكن بطريقة محسوبة بشكل من الأشكال كما هو الحال في الرياضيات، فالخراب الذي أصنعه محسوب، لأربطها مع علاقتنا بالأرقام وحياتنا التي تحولت لمجرد خطٍ زمني».
الصور التوضيحية من كتبنا المدرسية تنتقل إلى حالاتٍ جديدة مع هبة الأنصاري، فتستبدل التفاحات الثلاث بملاعق وسكاكين وطناجر، تسندها إلى لوحٍ يشبه اللوح المدرسي، والتي ترى أنه يعتمد على «عملية ذهنية، قد لا تكون واضحة للوهلة الأولى، في كشف الخلل المقصود للأشكال»، وتعيد الأنصاري تطبيق الضغط الناجم عن القصف باستخدام موادها، لتستعيد لحظة الانفجار، وتظهر هشاشة المواد الصلبة التي يتم اعتمادها للبناء في ظل التغيرات، وتضيف: «اكتشفت في كفرنبل كيف أن المواد القوية التي كنت أتعامل معها والتي تحيط بنا هي في الواقع أكثر هشـــــاشة منا عند القصــف، وهذه الفكرة من عملية ضغط الإسمنت مع الإسفنج الذي أقدمه في العمل».
أما الكتاب الأصلي فيتم عرضه على شكل جثة داخل صندوق زجاجي، تهديه لنورا بزكادي صاحبة الكتاب.
تستمر الأنصاري في بحثها، تلتقط التفاصيل، تحفظها في قوالب، أو تعيد صياغتها من جديد، تطبع أشكال الأسنان، تنثر الأنوف الخائفة في الغابات، تواجه جمهورها بحقيقةٍ قاسية تسكنها لتصير جزءاً من هاجسها الفني في أسلوبها التركيبي والتفاعلي، فتترك الأبواب مشرعةً لمخيلة الناس، هذه المخيلة التي لا يمكن لها أن تمر مرور الكرام أمام أعمال هبة الأنصاري دون أن تترك أثراً كبيراً في الذاكرة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى