ديوان حنين لزُبيدة بشير: الشّوق في الكون الشّعري

سلمى العطي

اختارت الشّاعرة التّونسية الرّاحــــلة زبيدة بشير أن تُعنون ديوانها الأوّل بلفـــــظ ”حنين”، وليس العنوان مجرّد علامة نصــّية، بل هو دالّ معـــــنوي يقف بين المخاطب والمتلـــــقي ولا بدّ من كشف خباياه وفكّ شيفرته حتّى ينفتح عالم النّص ونقتنص كنوزه ومدلوله. إنّه ”عتبة”، كما اعتبره النّاقد الفرنسي جــــيرار جينـــات في كتابه ”عتبــات”، فاعتبــــره مضطلعا بوظائف مختلفة كالتّعيين والإغراء.
فهل في الحنين إغراء؟ أم هو وجع نازف لم يندمل بعد فيُرجعنا دوما إلى أسطورة الماضي السّعيد؟
يكتسي الحنين وجوها مختلفة حدّ التّناقض، قد يحنّ الشّاب إلى طفولته والشّيخ إلى صباه والعاشق المعذّب إلى أيّام الوصال، كما يحنّ المغترب إلى وطنه وتفتقد الأمّ وليدها البعيد وتستعيد الحضارة الموؤدة مجدها التّليد. ومهما اختلفت ضروب الحنين فإنّه موجود في ذواتنا، يختبئ في الرّكن المظلم المنزوي منها لا تكاد تلحظه مكفّنا بغبار السّنين، فإذا أثارته علامة ما، على بساطتها، هاجت الشّجون واتّقدت النّار بعد خمودها واندفع ”من تحت الرّماد اللّهيب”. وفي تلك اللحظة، يتوهّج الشّوق ويتجلّى في صوره المختلفة، فقد يكون من نشتاق إليه ذاتا أو هوى أو زمنا أو مكانا.. ويصير شعار المشتاق ”أبدا تحنّ إليكم الأرواح” على حدّ عبارة السّهروردي.
وإذا تأمّلنا الدلالات اللغويّة للشوق في «لسان العرب» لابن منظور تبيّنا تعلّقه بمصطلحين رئيسيين هما ”نزاع النّفس إلى الشّيء” ”وحركة الهوى”. فالشّوق إذن حركة لا سكونا، وهو صراع داخليّ يعيشه المشتاق ويسعى إلى إخماده باستعادة الوصال. وحضر الشّوق في ديوان «حنين» بطرائق مختلفة، فكان أحيانا مركز النّص وموضوعه الأساسي، في حين ظهر في نصوص أخرى عرضا وهامشا لا تُبصره بل تدركه.
بدأ ديوان ”البلبلة العاشقة” بقصيدة تعبّر عن الشّوق إلى الحبيب، بعنوان «حنين»، وهي حبلى بالنداءات، إذ تتكرّر في بداية كلّ مقطع شعري منها عبارة ”حبيبي تعال” فهي بدء القصيد وختامه. فتقول الشّاعرة في المقطع الأوّل:
”حَبيبِي تعَالْ..
فبُعدكَ طَالْ..
وَصَبرِي ادعَاءْ،
وَصَمتِي افتعَالْ..
وتختم النّص بهذا المقطع:
وإذا ألتقي بك،
أنْسَى المُحَال
وَيَهْتزُّ قلبِي
بِألْفِ ابْتِهال،
حَبيبِي… تعالْ…”
ثمّ تدعوه في قصيدة أخرى بعنوان ”دعوة” أن يُخمد لهيب شوقها قائلة: ”عُدْ يَا حَبيبِي..عُدْ،
ففِي أعماقِ ذاتِي، ألفُ دعوة..
والذِكرياتُ تُحِيطُ بِي
فِي كُلِّ خطوَة..”
تختزل هذه القصيدة ذكريات اللّقاء الّذي تشتاق إليه العاشقة، وكثيرا ما تعترضنا في هذا الدّيوان مشتقات جذر (ذ، ك، ر) من ذكرياتٍ، وذكرى، وتذكّر… وخصّصت الأديبة قصيدة مستقلّة تحمل عنوان ”ذكريات” تعتبرها فيها ”بقايا من شبابها ووجودها”. وشبّهت شعورها بالشّوق بالصّقيع، وفي هذا التّشبيه خروج عن الصورة المألوفة في الشّعر للشّوق بما هو نار ولظى. إذ يقول أبو منصور الثّعالبي في وصف الشّوق والحنين من كتابه ”لباب الآداب” ”شوقٌ براني بَري الخِلال، ومحقني مَحقَ الهلال شَوقٌ يفض الفؤادَ، ويقضُ المِهاد، نارُ الشوق حَشو ضُلوعي”، وقيل في الشّوق ”شوق لو فُرّق على القلوب الخالية لاشتغلت ولو قُسّم على الأكباد الباردة لاشتعلت”. أمّا زبيدة بشير، فلم تستق صورة الشّوق من السّائد البلاغي، فشبّهت شوقها بالشّتاء المُثقل بالأنواء. وتقول معبّرة عن عذابها ”’البردُ فِي الدُّنيَا،
وفِي جِسْمِي،
وفِي قلْبِي الحَزينِ”.
فالشّتاء في الكون الشعري لزُبيدة بشير شتاءان، شتاء العالم، وشتاء القلب، ولذلك عنونت إحدى قصائدها بشتاء وشتاء، وهو مركّب عطفي لا يفيد الاتصال، بل الانفصال، فشتاء الخارج أيسر، يُبدّده دفء الشّمس، أما شتاء الروح، فيَعسر الهروب من قيده، وهو ما دفعها إلى التّساؤل ”أترى الشّتاء سَينتهِي يومًا؟
ويأتينَا الرّبيعُ بدفئهِ المغرِي الحنون؟
أمْ أنّنِي سأظلُّ وحدِي،
فِي شتاءٍ مُرهق الأعصابِ مكتومِ الأنين؟”
تعيش الشّاعرة حيرة وقلقا وشوقا سرمديّا، قد لا يحضر الشّوق في متن النّص فيكون موضوعه فيظهر في ثنايا النّصوص هامشا نصّيا لكنّه جزء لا يتجزأ من التّجربة الشّعرية لزبيدة بشير. إذ تألّف ديوان حنين من سبع وعشرين قصيدة، تكاد لا تخلو قصيدة من قصائده من الحنين والشّوق إلى الآخر. ففي قصيدة ”يقظة” تشتاق إلى ”الأمس القريب” باعتباره زمن الأنس والوصل، وفي نصّ ”نهاية قلب” تحنّ إلى أحلام الشّباب ”الّتي مضت خلف السّحاب”، وترثي في نصّ ”الأمل الضائع” فجر العمر الرّاحل.
تتغيّر العناوين وتتعدّد النّصوص لكنّ الجوهر هو هو، شوق وصبابة وحنين أبديّ.. وهو ما يجعل من ديوان حنين ”بحثا” في سبيلين، سبيل النّص والكون الشّعري الذي تسعى أن تُثبت فيه الشّاعرة كيانها وفرادتها، وسبيل اليقين والسّكينة والدّفء بعد الصّقيع، ولذلك عندما قدّم الأديب التّونسي مصطفى خريّف هذا الديوان قال في مقدّمته ”عرفت زبيدة أنّ الشّعر كلام جيّد ينشأ عن فيض النّفس بما تجد من تجارب ذاتية، وبمقدار صدق ذلك الكلام في التّعبير عن مصدره يكون تدرجه في الجودة وبالتالي تأثيره ووقعه”. فليس الشّعر قولا لغويّا وحسب، بل هو قول عاطفي يعكس الهمّ الوجودي والحمل الإنسانيّ ويعالج الشّوق بالقول، فتتحرّر خلجات النّفس من أسر الكتمان ويفضح الأدب المأساة، أليس الأدب في وجه من وجوهه مأساة أو لا يكون بعبارة محمود المسعدي؟ تنطلق نصوص زبيدة بشير من الشّوق وتنتهي به فهو البدء والختام، وليس اعتباطا أن تختم ديوانها بقصيدة ”وداع” بل هو فعل كتابة قصديّ، تعلن فيه دفعها أرزاء الشّوق عن روحها المرهقة، وترفض الحنين الّذي وارته طويلا وكُشفت عنه الحجب عبر الأدب، فصرّحت معلنة عبث التّجلّد ” يهتف القلب بي: دَعِي الصَّبْرَ عنّا إنّمَا الصَّبْر هُو عينُ الجُنونِ”.
سعت الشّاعرة إلى تلبية نداء القلب، لتخلع عن نفسها رداء الشّوق، بيد أنّ الشّوق الحقيقي لا تُخفت صوته صولات الزمن ولا يُهدئه أمل عابر ولا يُلجمه فرح الوصال.. فكما قال ابن عربي ”كلّ شوقٍ يَسكنُ باللّقاء لا يُعوَّل عليه”.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى