«إنها فقط نهاية العالم» للكندي كزافييه دولان: صورة كابوسية للأسرة

نسرين علام

«البيت ليس مرفأ… البيت حيث الألم» هكذا تقول أغنية البداية لفيلم «إنها فقط نهاية العالم» (2016) للمخرج الكندي كزافييه دولان، ولعل هذه التعبير يكثف قدر الألم والحزن والغضب في ذلك المكان المسمى المنزل، ذلك المكان الذي يفترض أن نعود له لنجد السكينة والسكن، ولكنه في فيلم دولان يتحول إلى قطعة من الجحيم.
يعرض الفيلم، الحائز الجائزة الكبرى (جائزة لجنة التحكيم وثاني أهم جوائز مهرجان كان) لعام 2016، حاليا في دور العرض البريطانية. إنه فيلم عن تلك المشاعر الحبيسة دوما تحت سطح العلاقات الأسرية، عن صلات أخوة كنا نأمل أن تكون أقوى ولم تكن، عن الندم والألم والحب غير المفصح عنه، عن هؤلاء الذين نحبهم ونشعر بأننا خذلناهم أو أنهم خذلونا. عن كل التوقعات المعقودة على أسرتنا وكل الخيبة والحسرة التي تأتي من عدم تحقق هذه التوقعات.
بعد غياب دام أعواما طوال، أكثر من عشرة أعوام، يعود لوي (غاسبار أولييل) من مهجره لزيارة أسرته. ولكنها ليست بالزيارة العادية. إنها زيارة الوداع، الزيارة التي سيعلن فيها إنه يحتضر، ويرى هؤلاء الذين لم يرهم منذ أعوام وأعوام مرة أخيرة. لكنهم لا يعلمون ذلك ويحسبونها زيارة من ذلك الابن الذي وجد الشهرة والثراء بعيدا.
ربما ما لا يدركه لوي أنه قد يكون في عداد الموتى بالنسبة لأسرته، لم يعد بالنسبة لهم سوى بطاقة بريدية تصلهم في الأعياد، أو الكاتب الناجح الذي يقرأون مقالاته وأنباءه في الصحف. ولكنه لم يعد حقا فردا من الأسرة. لا يعرف مشاعرهم، لم يشاركهم أحلامهم، لم يشاركهم صباهم، لم يشهد مولد أبنائهم. عودة تنكأ الكثير من الجراح وتظهر على السطح الكثير من الغضب الذي كان مدفونا طيلة الغياب. لقاء خانق هستيري فيه لحظات من الجنون والغضب الجامح، ويتعمد دولان، الذي كتب السيناريو شديد الإحكام للفيلم مقتبسا إياه عن مسرحية للكاتب جان- لوك لاغراس الذي توفي عن 38 عاما إثر إصابته بالإيدز، أن يخلق هذا الجو المشحون بالتوتر والقلق والغضب. يقدم الفيلم صورة شديدة الإيلام لتفسخ العلاقات الأسرية وتفككها، تلك العلاقات المتأزمة التي صورها في فيلمه «قتلت أمي» (2009) وفي فيلمه «أمي» (2014)، ولكن التأزم في هذا الفيلم مضاعف أضعافا كثيرة، يصل إلى درجة تقارب الجنون.
إنه لقاء كابوسي اختار دولان فيه أن يقرب الكاميرا من وجوه أفراد الأسرة تماما، فنحن نكاد نراهم طوال الوقت لقطات مقربة للغاية (كلوس أب) نلحظ فيها اختلاجات الأوجه ونظرات الأعين وما تتمتم به الشفاه من دون أن يلحظها الغير. أحيانا تطغى الذكريات على لوي، خاصة حين يتذكر حبيب المراهقة، فنرى ظل ابتسامة شجن وحنينا على وجهه، ولكنها سرعان ما تختفي وسط حرج الموقف. لعل الصورة الأكثر وضوحا، لأن لوي بعد غيابه الطويل لم يعد فردا من الأسرة بحق، يأتي في ذلك التلعثم الذي نراه من كاترين (ماريون كوتيار) زوجة شقيقه، تلك التي لم يحضر عرسها، ولم ير أيا من أطفالها الثلاثة. نراها تحاول أن تتحدث بالود اللائق، ولكنها من فرط الحرج من الحديث مع لوي الذي يفترض أنه قريب، ولكنه في الواقع غريب، نراها تترد بين صيغة الحديث معه بضمير «أنت» أو الضمير الأكثر رسمية الذي يستخدم للأغراب. تلعثم وتردد وحديث مبتسر، وكلمات يقصد بها الود، ولكنها تخفي مشاعر ألم. على الرغم من أن الفيلم مليء بالحديث، لكن ما يود الجميع قوله لا يفصح عنه. الكل يحاول أن يبدو ودودا، باستثناء الشقيق الأكبر أنطوان (فانسان كاسيل)، الذي لا يكبح جماح الغضب والإحباط من غياب شقيقه وبعده التام عن الأسرة.
لوي يبدو مريضا، يبدو شاحبا تتحلق عيناه بالسواد، ولكن أحدا لم يلحظ ذلك، فهو غريب عنهم جميعا، ولا يستطيعون قراءة وجهه. ولكن ما يرتسم على وجه لوي أكثر من المرض، إنه خليط من التوتر والإحساس بالذنب والخوف. وجوده وسط أسرته لا يملأه بالحنين بقدر ما يملأه بتلك المشاعر التي جعلته يغادرهم ويرحل في المقام الأول. يعن لنا أن نتخيل الأسرة في غياب لوي. أتراهم بهذا الغضب والتوتر في غيابه؟ ما نراه هو أن حضوره هو سبب هذه الهستيريا التي طفت على السطح. إنهم ناقمون نوعا ما على نجاحه ككاتب، ولكن الوجع الأكبر يأتي من تجاهله لهم ونأيه عنهم ليحقق النجاح والشهرة. أصبح بالنسبة لهم قصاصات صحف تجمعها شقيقته التي غادرها وهي ما زالت طفلة. عودته أعادت إلى السطح كل التوتر وعدم التفهم وعدم الفهم التي دفعته للمغادرة في المقام الأول. قرب نهاية الفيلم وقبل أن يغادر لوي منزل أسرته، وفي لحظة يغيب فيها الجميع، يبقى لوي بمفرده في المنزل، وفجأة يدخل عصفور صغير من النافذة. يتخبط العصفور من جدار إلى جدار ويرتطم بما يراه في طريقه، ولكنه يسعى بكل جنونه وخوفه للهرب من هذه الجدران التي صار حبيسا لها. يسعى للحرية في أفق أرحب. لوي مثل هذا الطير، فربما كان بقاؤه وسط أسرته نوعا من الموت سعى إلى إنقاذ نفسه منه. المفارقة أنه يهرب من بيت الأسرة حتى لا يختنق معنويا ولكنه يعود ليعلن عن موته مرضا. إنه فيلم يقدم صورة قاتمة وصادمة للغاية للأسرة وأجوائها. ما يقدمه دولان ليـــس ذلك التصور الوردي لهذا الكيان الذي يمد أفراده بالدفء والحنان. الأسرة كما يصورها دولان خانقة ناقمة مؤلمة. البقاء في الأسرة في عالم دولان هو حقا نهاية العالم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى