رواية المنفى العراقية: مراجعة نقدية
حسن سرحان
النقد، في العراق كما في بلداننا العربية، يهوى التصنيف ويميل إليه، فشعرنا العراقي مصنفٌ إلى خمسيني وستيني وسبعيني وثمانيني وهلمّ جرّا. وروايتنا تقسمُها نخلةُ غائب طعمة فرمان إلى ما قبل 1965 وما بعد ذلك التاريخ.
ليس هذا كافياً في عرف نقادنا، إذ لا بد من تقسيم الرواية إلى مراحل أكثر دقة وحصرها ضمن محددات زمنية ومكانية أشدّ دقة، فابتدعوا لذلك تقسيمين آخرين: رواية ما قبل التغيير (فترة حكم البعث) ورواية ما بعد التغيير (زوال نظام صدام حسين) ورواية الداخل ورواية الخارج.
ولأنّ نقدنا لا يحب المراجعة، فقد تعامل مع هذه التقسيمات، لاسيما بعد تكريس المؤسسة الأكاديمية لها، على أنها واقع محتوم ونهائي، حتى أصبح الأمر اليوم يسري مسرى البديهيات. بودي هنا مراجعة واحد من هذه التقسيمات أعني الأخير منها: رواية الداخل ورواية الخارج، التي يحلو الحديثُ عنها حالياً لبعض من يكتب النقد الروائي في العراق. هم يعنون بالأولى الرواية التي يكتبها عراقيون داخل العراق لم يغادروه يوماً، أو غادروه وعادوا إليه نهائياً. ويقصدون بالثانية الرواية التي يكتبها عراقيون باللغة العربية (لعدم معرفة أغلبهم بغيرها وليس لأنها خيار فني) ممن يعيشون خارج البلد في مناف أجبروا عليها أو اختاروها. قد يذهب الأمر ببعض النقاد المتحمسين جداً للرواية العراقية، لاسيما في لحظات الانفعال والغيرة الوطنية، حد عدّ الرواية التي يكتبها روائيون أجانب ذوو أصول عراقية جزءاً من رواية المنفى، وبالتالي جزءاً من الرواية العراقية. عندما يحصل بعض هؤلاء على جوائز محلية عن روايات كتبوها بلغات غير العربية، يتخذ المتحمسون من ذلك الفوز دليلاً على نجاح الرواية العراقية وعلامة على عافيتها، يحتجون به على منْ يخالفهم في الرأي. لن أدخل الآن في سجال حول مصطلح الرواية العراقية ومعناه وحدوده ودلالاته ومصداقيته، ولا فائدة لي في مناقشة الشروط الفنية والتاريخية الواجب توفرها كي يكتسب هذا المصطلح معانيه الحقيقية. استخدمه هنا، كما فعلت دوماً، لأنه متداوَل وحسب وليس لأني أُقره أو لأني مقتنع به.
عند تعلق الأمر بالرواية العراقية، قد تبدو تصنيفات الداخل/الخارج مجانية ومتعسفة وغير حقيقية ما دامت رواية الخارج بلا سند ابداعي كبير، من جهة، وبدون أساس علمي بحثي حقيقي متراكم يدعمها ويؤصل لها ويجعل منها أمراً واقعاً، من جهة أخرى. هذه النقطة الأخيرة من واجب الأكاديميين ومؤرخي الأدب أما النقطة الأولى فتخص روائيي الخارج أنفسهم الذين عجزوا عن صناعة رواية تترك علامة فارقة وأثراً لا يُتجاوز. كان هذا الأمر ممكناً جداً لو واصل المنفي بلورة روايته الخاصة به المجسِّدة لثيماته التي ميزته في تسعينيات القرن الماضي عن رواية الداخل، ولو أن روائيي المنفى اقترحوا تقنيات تخالف تلك التي ألِفوا استخدامها قبل مغادرتهم البلد أو خصص من بدأ منهم الكتابة هناك هامشاً أكبر للتجريب في مشغله الروائي. قد يجد الدارس في اضطرابات المجتمع العراقي ومآزقه المتكررة عذراً لفتور همة الروائيين الذين لم يتركوا العراق عن تأسيس تقاليد روائية ثابتة خاصة بهم، لكن ما عذر الروائيين المغتربين اذا ما سئلوا عن تقصيرهم في تشييد أعراف روائية راسخة وهم يعيشون في ظروف ملائمة جداً، أو هكذا نفترض، من حيث الحرية وسعة الأفق والراحة الفكرية والاطمئنان النفسي؟
لم يقدم المنفى، بانفتاحه وخصوبة تربته الثقافية وتنوع أعراقه، لمجمل الكتّاب العراقيين أفكاراً جديدة ولا أسلوب كتابة جديدا ولم يغير كثيراً من رؤيتهم للعالم وتوجهاتهم الفكرية الأولى. السبب في ذلك يكمن في عدم قدرة هؤلاء على التحرر من ثقافتهم السابقة وعتق أرواحهم وذاكراتهم بشكل خاص من سطوة الماضي الساكن فيهم بمسراته القليلة وخيباته الكثيرة، كما بعقده النفسية والتاريخية والسياسية. دليلي على هذا أن الكثير منهم احتفظ بهويته الفنية ومنطلقاته الفكرية الأساسية التي كانت له قبل هجرته، ولم يحاول التخلص منها. أجد في روايات فؤاد التكرلي، فاضل العزاوي، لطفية الدليمي، عالية ممدوح، جنان جاسم حلاوي والعديد من روايات علي بدر التي كتبها في منفاه، أمثلةً حية على هذه الظاهرة. منْ حاول مرةً من كتّابنا المنفيين كسر هذا الجمود الفني والفقر التخييلي لرواية المنفى، انتهت مغامرته إلى فشل كبير. تلك حالة غائب طعمة فرمان في آخر رواياته «المؤجل والمرتجى» التي جرّب فيها، للمرة الوحيدة، كتابة رواية لا تستند إلى ذكريات الماضي الحميمة وتستبدل بغداد بموسكو، كإطار مكاني لأحداثها، فكانت النتيجة أن قدم لنا نصاً هو الأضعف فنياً والأقل إقناعاً من بين نصوصه كلها. إذا كان مفهوماً، على نحو من الأنحاء، أن يتمسك بالذاكرة الذين كُرِّسوا كروائيين قبل مغادرتهم أماكن الطفولة والشباب، فما بال من بدأ كتابة الرواية خارج العراق يسلك المسلك نفسه؟ إن قراءة في روايات غائب طعمة فرمان وسليم مطر وإبراهيم أحمد ونجم والي وعبد الله صخي وحميد العقابي ولميس كاظم وإنعام كجه جي، على سبيل المثال لا الحصر، تكشف بسهولة استمرار تعلق هؤلاء بذاكراتهم الشخصية، وتمكّن الماضي منهم وسطوته عليهم. هذا التعلق الجمعي الشديد لروائيي الخارج بالذاكرة ونبش الماضي عن طريق تداعي الذكريات غالباً، أو عن طريق البحث الوثائقي أحياناً (حالة علي بدر، نموذجاً) يسمح بالقول إن رواية المنفى روايةُ حنين أكثر من أي شيء آخر كما يسوغ وصف كتّابها بالكتاب الماضويين (أعني مسرفين بالتمسك بالماضي وهم، هنا، لا يختلفون في شيء عن زملائهم من روائيي الداخل). أن واحدا من نتائج هذا العجز عن مغادرة مناطق الذاكرة الأولى والإفلات من هيمنة الماضي كان ندرة الاهتمام بالمكان الأوروبي ومواضيعه ومشاكله وإفرازاته الثقافية، ما حرم رواية المنفى من صدقيتها الأكثر ارتباطاً بها ودلالةً عليها. أضف إلى هذا خلو روايات المنفى من أثر اللغات الأجنبية وآدابها، التي يفترض أن الروائيين تعلموها وقرأوها، في أساليب كتابتهم وإيقاعها إذ بقيت لغتهم قريبة أو مماثلة، بل وتتجاوز أحياناً، من حيث عنفها وساديّتها وعدائيتها، لغة زملائهم من كتاب الرواية في العراق. حتى في حالات ظهور المكان الأوروبي في الرواية، لا يستعمل هذا الأخير الاّ لأمريْن: جسراً لاستدعاء المكان القديم في الوطن، أو ديكوراً استعراضياً بائساً لا يتعدى ذكر أسماء شوارع وحانات وساحات بلا فاعلية ولا ارتباط عميق بالحدث السردي. مردّ ذلك إلى أن الروائيين يمرون على الأمكنة مروراً عجولاً يفصح عن ضيقهم من التدقيق فيها وغفلتهم عن مباهجها وتقاعسهم عن نقل حمولاتها المتنوعة لقارئهم العراقي، ربما لعدم معرفتهم بها (أعني الأمكنة وحمولاتها ومباهجها على حد سواء) بشكل جيد وصعوبة تآلفهم معها على المستوى النفسي. هكذا هو الحال في رواية فرمان المذكورة آنفاً كما في روايات «امرأة القارورة» لسليم مطر و»طفل السي أن إن» لإبراهيم احمد، و»هواء قليل» لجنان جاسم حلاوي و»الإله الأعور- غزل سويدي» لسلام عبود و»المرآة» لحميد العقابي و»الكافرة» لعلي بدر. إن هذه الخشية من المكان الأوروبي، الذي هو مستقر أغلب كتاب رواية المنفى العراقية، دليل على غياب الألفة ليس مع المكان فقط، بل مع ساكنيه أيضاً الذين يقتصر حضورهم في رواية المنفى على ستيريوتيبات ثقافية (أقصد صور نمطية مستهلكة وجاهزة ومعروفة) موجودة مسبقاً في الوعي الجمعي العربي تجاه الشخصية الغربية. في هذه الغفلة عن استحضار الآخر مؤشرٌ على عجز شديد عن فهم هذا الآخر وعدم رغبة في مخاطبته والاقتراب منه أكثر للتعرف عليه والاكتفاء بدلاً عنه بالمماثل ثقافةً وإرثاً وذاكرةً. من هذه الأمثلة المشار إليها أعلاه وغيرها كثير، يظهر أن منفى غالبية الروائيين العراقيين جسدي لا فكري بمعنى أن انفصال الجسد عن الماضي الخاص أو العام ليس بالضرورة انعتاقاً من سجن الذاكرة الرهيب.
في رواية علي بدر «الكافرة» تقول صوفي أو فاطمة لصديقها أدريان «تذكّر الماضي… إرحل معه… سلوتك الوحيدة … الشيء الحقيقي هو ما فات، لا ما سيأتي.. إنه التذكر يا صديقي التذكر هو ما يشغلني ليل نهار». أما في رواية «المرآة» لحميد العقابي فيقوم أبٌ عراقي، يعيش في الدنمارك منذ 22 عاماً ويحمل جنسية ذلك البلد، بقتل ابنته التي ولدت هناك وتشرّبت بثقافة مفارقة لثقافته، يقتلها لأنها مارست الجنس مع صديقها. يكشف هذا الفعل بصورة أكبر عن أن الوجود في المكان الأجنبي وجود جسدي لا غير، ما دام الذهن مؤثثاً بذاكرة الماضي القصية التي يرفض صاحبها التخلي عنها أو حتى استبدالها والتحول صوب الحاضر. هنا، في هذه النقطة بالذات، تتشابك رواية الخارج مع رواية الداخل من حيث الاتكال المبالغ به على الذاكرة والعيش، سردياً، على ما جاد به الماضي من ذكريات أغلبها مر ويضفي على روايتنا وجهاً كالحاً مكفهراً، طالما ميّز أدبنا منذ الولادة إلى اليوم.
كان المنفى سيتحول إلى مصدر إثراء كبير وتجديد غير محدود للرواية العراقية لو أن كتّابه قللوا من التباري في الكتابة عن الوطن، الذي فروا منه وواظبوا على تنويع نماذج شخصياتهم وموضوعاتهم وتقنياتهم، ولو أنهم غادروا المنطقة الوسطى التي يعيشون فيها ونقلوا لنا بشكل أكبر تجاربهم في المهجر وتصوراتهم عن المجتمعات التي استقروا فيها.
كان المأمول منهم، ما داموا مصرين على ذلك، أن يعيدوا، وهذا أقل الطموح، سرد الواقع العراقي وفق رؤيتهم المستقلة كمبدعين يسكنون خارج الوطن، وغير خاضعين لضغوطاته السياســية والاجتماعية والأخلاقية والدينية.
إذا بدا الحديث، في فترة من فترات تسعينيات القرن الماضي، ذا وجاهة مقبولة عن وجود رواية منفى عراقية، فإنه منذ 2003، وبعد أن ضاعف روائيو الخارج من سباقهم المحموم مع روائيي الداخـــــل في الكتابة عن مشكلات الواقع العراقي، لم يعد ممكناً الكلام عن رواية منفى ورواية داخل لأنّ الأولى تحولت إلى صدى فني وثيماتي باهت للثانية.
(القدس العربي)