«القاهرة» وعالمها العجيب… المجد المبني على الضوء

هاشم شفيق

لعل فتنة القاهرة وغوايتها، هما اللتان تدعوانك إليها العام تلو العام، فتنة النيل ودلتاه وسفنه الشراعية، وغواية الشمس التي تحمل إليك الدفء الطويل حتى القدمين، أحياناً تلمه، لكي لا تتعثر به، وأنت تسير في شوارعها المستيقظة والسهرانة حتى خيوط الفجر الأولى. فهي تعشق المسامرة والمنادمة وسرد المحكيات.
القاهرة التي قهرت الليل والظلام والسكون، لتعيش مجدها المبني على الضوء، حتى وهي فقيرة، تقتات قوت يومها، ومحاصرة من كل حدب وصوب، خصوصاً من الظلاميين والتيارات السلفية التي تسعى لأن تعود بها قروناً إلى الوراء. تنهض القاهرة صباحاً، فتية ونشيطة وحيوية كل يوم، على الرغم من القدامة التي تلوح على واجهاتها، وقلة العمران وتلكؤ المسيرة الاقتصادية وانعدام يد العون من الجيران والأباعد، ولكنها تغض الطرف وتتناسى وتسير في اتجاه المواصلة على العيش واحتضان الحياة بكل ما أوتيت من صبر وقوة وتحد، إنها قاهرة العرب والمنارة التي تستطيع أن تطل منها على كل المعمورة العربية.

الوصول

أصل ليلاً إلى القاهرة، لا زحام في المطار، تجري أمور الدخول بسلاسة، خارجه أرى لافتة تحمل اسمي، حاملها يلتقط حقيبتي الصغيرة ويمضي بها إلى المركبة، لينطلق في شوارع مدينة نصر التي كانت تغص بالاحتفالات، زعيق أبواق السيارات والحافلات وصفارات شباب مندفع يحمل الأعلام المصرية ويهتف للفريق المصري الذي وصل الى نهاية كأس أفريقيا في لعبة كرة القدم.

وسط البلد

حين أكون في القاهرة، أختار النزول في وسط البلد، أو الوسط التجاري، أو الداون تاون كما يسميها البعض، أي أسكن في قلب العاصمة وفي محيطها المتحرك وشريانها النابض، هنا الفنادق عديدة وتاريخية وذات معمار فني يذكر بالفن الراقي وبالزمن الذهبي، رغم قدمها وتلاشي جمالها البعيد، فهي تظل تمنح الذكرى والطبع والطعم الأول، وهي ليست بعيدة عن ميدان طلعة حرب، والشوارع المتاخمة له، كشارع شريف وعماد الدين ومحمد فريد ورمسيس، وشارع عرابي، الموصل إلى مترو محطة جمال عبد الناصر، حيث تبرز أعمدة «القضاء العالي» العلامة الكبيرة لهذا الوسط المزدحم والضاج بحركة الراجلين وحركة السير والنقل والمليء بالمحلات الكبرى والأسواق التجارية ودور النشر ومكتبات «الهيئة العامة للكتاب»، التي تنشط أيام معرض الكتاب، لتعرض الكتاب الثمين الصادر عنها، بثمن بخس، يكاد يقترب من ثمن قدح الشاي، أو فنجان القهوة في مكان شعبي.

حياة الكتب

إنها الكتب التي تشكل حياة أخرى، وعالماً متخيلاً موازياً للواقع المرير، الكتب التي تغير وتبني وتمنح الكثير، في الكتاب كون كامل، حيوات صغيرة تعاش مرة أخرى، مناخ الكتاب ومحيطه الداخلي، هما نوع من الهيمان والذوبان والاندغام بواقع حالم، حافل بالتنوع والاختلاف والندرة، وهو غير العالم الذي تتحرك فيه بملل، لا ملال في سماء الكتاب وأرضه، لا منغصات صغيرة وشائكة، هناك حياة إضافية وعليك أن تعيشها وتسبر غورها وطواياها لكي تكون لديك حياتان، واحدة عادية وأخرى خيالية، حيث الأخيرة تسعى قدر الإمكان لأنْ تدفع باتجاه الحلم والتغيير ومحو الثابت، والأولى تحاول أن تحاصرك بمصائبها اليومية التي ليس لها من نهاية.

مدينة طلعت حرب

تمثال الاقتصادي المصري «طلعت حرب» هو دليلي إلى المدينة بكل تفاصيلها، فأنا حين أكون في ساحته وأنظر إلى بذلته المرمرية، فإنني أستطيع تحديد طريقي، فهنا في الساحة، الصيدلية التي اشتريت منها دواء لزكام خفيف لازمني لوقت قليل، ومنها في إمكاني أن أدلف الى مكتبة «مدبولي» إنْ كنت في حاجة لكتاب ما، وأن تعسر العثور عليه، فإنني يقيناً سأكون عاثراً عليه في مكتبة «الشروق» المقابلة لها، وكلتا المكتبتين تنشران الكتب وتعرضان مطبوعات الدور الأخرى. وهنا مساء يمكنني التوجه إلى «النادي اليوناني» أو الى «الغريون» الذي يقع خلفه، وهو من الأماكن الحالمة حقاً. «غروبي» الشهير ما زال مغلقاً، منذ زيارتي للقاهرة العام الماضي، لا يشي بأي ترميم أو تدشين جديد له، وأنا هناك أو قبل وصولي أغلق «النادي اليوناني» لأسباب ما زلت أجهلها، ويجهلها غيري كذلك. «مقهى ريش» المنتسب للساحة ذاتها عاد إلى نشاط أوسع من السابق، فهو في فترة المساء والليل تدب فيه الحركة ويستقبل زواراً مختلفين ومن مختلف جنسيات العالم، فهو له تقليد متعارف عليه، ويلبي رغبات زائريه ببساطة. أحياناً أحاول أن أغير المكان فألجأ الى مقصف «اوستورياس»، ففيه أجد الهدوء والجو الرومانتيكي والضوء الخافت، المريح للنفس المتأملة، هذه النفس التي كانت تتسكع في ضجيج القاهرة الذي لا يهدأ، إلا في ساعة متأخرة من الليل. أما إذا وددت الاختلاء بنفسي لوقت قليل، أو كنت على موعد قصير، فإني سأميل إلى حانة «ستيلا» أو الإصطبل، كما يسميها البعض، التي أعرفها منذ أمد، ولي فيها جلسات وذكريات قديمة، فهي حانة بسيطة تذكرني بحانات بغداد القديمة، أو حانات الشام الغابرة والأنيسة.

عالم زهرة البستان

في ميدان «طلعت حرب» وفي جادة «مقهى ريش» يقوم المقهى التاريخي، مقهى «زهرة البستان» هذا المقهى يتحول أثناء معرض الكتاب وفي أيام العطل وأيام الجمعة الى مكان للقاء الكتاب والشعراء والأدباء العرب. حضرت جمعتين متتاليتين فيه، في الجمعة الأولى التي كبُرَتْ دائرتها واتسعت لتضم قرابة المئة شخص، تم ارتجال أمسية أدبية، كان المُحرِّض و«الدينامو» لهذه الأمسيات الروائي والقاص المصري وحيد الطويلة. الشعراء قرأوا نصوصهم في الهواء الطلق، أي في الشارع تقريباً، فهو لا يبعد سوى خطوات عن ميدان «طلعت حرب»، شعراء وقصاصون عرب من فلسطين والعراق ومصر وسوريا والأردن، قرأوا ما يحلو لهم من كتابات، وقفوا من دون منصات، أحدهم اعتلى درجات قليلة لمبنى ملاصق للمقهى، ليطلق صوته من عل، إنَّه (وحيد الطويلة) الذي قرأ قصة يحفظها عن ظهر قلب من دون ورقة أو كتاب.
كان موقفه لافتاً، وهو يلقي قصته بصوته الجهوري الذي لامس السامعين، حينها همسني (عبد المنعم رمضان) قائلاً: إن القاص والروائي المصري الراحل إبراهيم أصلان ايضاً كان يحفظ قصصه ويقرأها هكذا عن ظهر قلب من دون حاجة للنص المكتوب.

المقهى الثقافي

هذا المكان المنصوب على شكل خيمة كبيرة، يكاد يكون هو المكان الأبهى، وسط صخب معرض القاهرة للكتاب، بازدحامه وترابه المتطاير الذي يطارد الزائرين حيثما ساروا، خصوصاً حين تتجول في المعرض، باحثاً عن دار معينة، أو تود إلقاء نظرة عجلى على الدور التي لا حصر لها، والتي تضخ الكلمات المطبوعة والأغلفة المتنوعة والورق المختلف، هذا بالإضافة الى «سور الأزبكية» سوق الكتب القديمة، تراه أيضاً هناك، يحضر ويمتد بهيئته الرثة وطابعه الفوضوي غير المنظم، ستجد آلاف العناوين التي ستضعك مباشرة في متاهة لا حصر لها، من الكلمات والصور والمعاني والأخيلة وأرواح كتابها ترفرف فوقها.
في المقهى تستطيع أن تلتقي بمن تشاء من الأصدقاء الذين يحضرون المعرض، إما متسوقين، أو لديهم نشاط ثقافي معيَّن. ميزة المقهى هو طابعه المرتجل، ولكنه يلبي الخدمة على الفور، رغم زحمة الوافدين، ونجم المقهى أو نجمته لهذه الدورة هي الشاعرة والروائية (ميسون صقر القاسمي)، والسبب يعود لطلتها الدائمة على المقهى، سائلة وبشكل دائم عن الأصدقاء والصديقات من الأدباء والكتاب العرب، ومن ثم لم شمل هذا الجمع في صورة تؤرخ وجودهم وزيارتهم للمعرض، ومن ثم يتم إرسالها عبر هاتفها النقال الى كل بقاع العالم، أما السبب الثاني والأكثر أهمية فهو صدور روايتها اللافتة «في فمي لؤلؤة» التي حصدت أعجاباً نقدياً حال صدورها، ناهيك عن وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد لهذا العام.

جريمة في رام الله

خلال تجوالي في المعرض، وتصفح الدور الكثيرة، أتوقف عند بعضها، تلك التي تكون قريبة من ذائقتي الفنية، في تصميمها للكتاب ذي الشكل المميز والحديث واللافت من ناحية الطباعة والشكل والحجم والاختيار، كذلك لكتاب معيَّنين، مبتكرين ومبدعين أو معروفين بتقديم أعمال مائزة، نوعية هذه الكتب، تكون من دون شك، لافتة لنظر القارئ الجائل، إضافة الى المنتوج التعبيري والجمالي الذي يحمله الكتاب. هذه الدور هي قليلة ومعدودة، ولا تخطئها العين، حين تمرّ بها، بعض أصحاب هذه الدور هم من الأصدقاء الذين أعرفهم منذ زمن بعيد، ومن بين الدور الجديدة التي تهتم بالمبدع الشاب وتنضاف لهذه الشاكلة، هي «دار المتوسط» التي أسسها الشاعر الشاب (خالد الناصري). دار مجازفة ومغامرة وليس لديها أي تابو على أي كتاب يأتي اليها، من بين هذه الكتب التي طبعتها لهذا العام رواية الروائي الفلسطيني عبّاد يحيى «جريمة في رام الله». أثناء زيارتي للمعرض، زرت جناح «المتوسط» فوجدت خالداً مضطرباً وعليه علامات التعب والإنهاك والاضطراب، وقد بدت تطفو على وجهه على نحو واضح، وقد تبيَّن لي في ملاحظتي هذه، أن هذا التعب هو ليس تعب المعرض ومشاكله العادية واللوجستية المعروفة، فبادرته قائلاً «ما الخطب يا خالد؟ فأجابني أن رواي «جريمة في رام الله «صودرتْ من السوق في رام الله، من قبل النائب العام ويطالب في قرار قضائي، حضور الكاتب والناشر والموزع إلى مكتبه في رام الله، لغرض التحقيق والتثبُّت من تداعيات القضية».

حرّاس الفضيلة

يبدو أن النائب العام لم يقرأ كتاباً في حياته، لقد فرغتُ مؤخراً من قراءة الرواية التي رَبَتْ على أكثر من 250 صفحة، فوجدتها رواية عادية، رغم جرأتها وتناولها لموضوع بات التطرق إليه في غير رواية عربية، شبه معروف ومتداول من قبل، في تخطي المسكوت عنه ونَشْرِه مثلما هو سائد في الحياة والواقع، وهنا يحضرني هنري ميلر الذي قال يوماً لأحد الصحافيين، وهو يجري مقابلة معه «هل الكلام الشفاهي مقبول وإذا ما أردت كتابته يكون غير مقبول؟» المهم في الأمر أن الكاتب الفلسطيني الشاب والمغمور، الذي لم أكن قد قرأت له البتة، جعله النائب العام مشهوراً، وجعل من الطبعة الأولى تتكرر في طبعات لاحقة.

حضارتنا الضائعة

يبدو أن الواقع الحضاري الذي كان سائداً في العراق إبان العصر العباسي، أي قبل أكثر من ألف سنة، كان أكثر انفتاحاً وتقدماً وتحضراً من الوهــلة السانحة لعالمنا العربي الذي تتآكله الصراعات والخرافات والإثنيات المتطاحنة، تلك التي تحلل الذبح على الهوية والقتل على الاختلاف الديني والمذهبي، وتحرم الخمرة والموسيقى والغناء، لتبيح سفك الدم بين الأخوة، كما يحدث في العراق الآن.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى