‘أسد’ غريب يبحث عن هويته بين عالمين متناقضين

أمير العمري

فيلم “أسد” (Lion)، أحد الأفلام المأخوذة عن قصة حقيقية، وهو من التمويل الهوليوودي، وأول الأفلام الروائية للمخرج الأسترالي غارث ديفيز الذي عرف بإخراج الإعلانات التلفزيونية، كما عمل مع المخرجة النيوزيلندية الشهيرة جين كامبيون في المسلسل التلفزيوني القصير “قمة البحيرة”.

والفيلم من بطولة الممثل الهندي البريطاني -الهندي الأصل- ديف باتيل، الذي قام قبل ثماني سنوات بأداء دور البطولة في الفيلم البريطاني الشهير “مليونير العشوائيات”، وهناك دون شك علاقة ما بين “أسد” و”مليونير العشوائيات” من ناحية انتماء الفيلمين إلى نوع “الميلودراما” التي تبدأ بالمأساة وتنتهي بالسعادة، بعد أن تكون قد جعلت الجمهور يذرف الكثير من الدموع.

يعتمد سيناريو الفيلم الذي كتبه لوك ديفيز على كتاب بعنوان “الطريق الطويل إلى الوطن” من تأليف بطل القصة الحقيقية سارو برايرلي. ويقوم ساني باوار، الطفل الهندي الذي يعد الاكتشاف الحقيقي للفيلم، بدور “سارو” في النصف الأول من الفيلم الذي يتجاوز زمن عرضه الساعتين.

وسارو، طفل الخامسة، الفقير الذي ينتمي إلى أكثر مناطق الهند فقرا في مقاطعة كاندوا شمالي البلاد، يساعد شقيقه “جدو” الذي يكبره بعدة سنوات، في سرقة أكوام من الفحم من قطار لنقل البضائع من أجل تبادلها ببعض الحليب والعودة إلى أمهما البائسة التي لا تجد شيئا تقدمه لهما.

الاثنان يتضوران جوعا، سارو يتطلع إلى نوع من الحلوى باشتهاء، ويعده شقيقه بأنه سيحصل له على قطعة منها.. جدو يترك شقيقه واعدا إياه بالعودة خلال دقائق بعد أن يطلب منه أن ينتظره داخل عربة من عربات قطار يقف عند رصيف مهجور في محطة القطارات، يغلب النعاس سارو فيرقد على المقعد الخشبي داخل عربة القطار ويستغرق في النوم من شدة التعب، وما إن انقضت برهة حتى تحرك القطار، وعندما ينتبه سارو إلى ابتعاد القطار عن المحطة يصرخ مناديا جدو، مستغيثا بمن يمكنه مساعدته، لكن لا حياة لمن تنادي، فالقطار يواصل سيره ويقطع المئات من الكيلومترات دون توقف، ولا يتوقف في النهاية إلا في كلكوتا الواقعة على مسافة 1600 كيلومتر.

في كلكوتا يُفتح باب القطار، ويهبط منه سارو ليتجول في المدينة المزدحمة وكأنه يشهد نهاية العالم، يبحث عما يسد جوعه في صناديق القمامة، يتوقف أمام مطعم من مطاعم الوجبات السريعة، يتطلع في نهم إلى شاب جالس في المطعم يتناول طعامه، يتجه إليه الشاب الغريب، يمنحه بعض الطعام ثم يصطحبه إلى قسم الشرطة.

الضابط يستجوبه، يريد أن يعرف اسم البلدة التي جاء منها، اسم أمه، لكن ليست هناك لغة مشتركة، لا أحد يفهم ما يقوله الصبي؛ فهو لا يتكلم لغة إقليم البنغال، ينتهي سارو إلى دار للأطفال المشردين، ويأتي من أستراليا رجل وامرأة هما: سو وجون برايرلي (نيكول كيدمان وديفيد وينام)، يتبنيان سارو، ثم يصطحبانه معهما إلى بلدة جميلة هادئة في الريف الأسترالي، حيث ينعم بحياة الطبقة الراقية، وسرعان ما يلحق به طفل هندي ثان تبنته الأسرة.

والطفل الثاني الذي يدعى “مانتوش”، هو على النقيض من سارو، فبينما يتمتع سارو بالهدوء ودماثة الخلق، يتصف مانتوش بالقلق والتوتر ويعاني من نوبات تشنج واكتئاب مما سيسبب لوالديه بالتبني الكثير من المتاعب، خاصة وأنه دائم الشكوى والتبرم، عاجز عن التكيف مع وضعه الجديد.

فجأة يقفز الفيلم في الزمن 25 عاما إلى الأمام، لنرى سارو وقد أصبح شابا يدرس اختصاص الإدارة الفندقية في ميلبورن، وهناك يقع في حب فتاة تدعى “لوسي” (تقوم بالدور روني مارا)، ثم يصطحبها إلى حفل يقيمه أصدقائهما.

وخلال الحفل عندما يجد سارو نفسه وجها لوجه أمام تلك الحلوى التي كان يشتهيها في طفولته يرتد بذاكرته إلى الماضي، ويبدأ في الشعور بالرغبة في معرفة ما حدث لأسرته، لأمه وشقيقه بعد أن تركهما، يريد أن يستعيد هويته الحقيقية، يؤرقه الشعور بالذنب؛ ذنب أنه عاش حياة الرفاهية، بينما عانت أمه وربما لا تزال تعاني حياة الفقر والفاقة مع شقيقه جدو.

يبدأ سارو رحلة البحث عن طريق محرك غوغل على شبكة الإنترنت، ويوما بعد يوم وبمساعدة لوسي، يقترب سارو من الوصول إلى هدفه، لكنه لا ينسى أسرته الأسترالية أو يتنكر لها، بل تظل علاقته قائمة مع أمه بالتبني التي تسر له في لحظة تدفق عاطفي بديع، بما دفعها إلى تبني طفلين ينتميان إلى عالم آخر مختلف، وهي التي لم تنجب وظلت تحمل هما إنسانيا أكبر من ذاتها، إن حبها للولدين اللذين تبنتهما لا يقل عن حب الأم الحقيقية التي يبحث عنها سارو ويريد أن يعثر عليها ليطلب منها الغفران، وهو ما يتحقق له أخيرا.

يمكن اعتبار النصف الأول من الفيلم الذي يصور سارو طفلا في الخامسة، يجوب الشوارع مع شقيقه، بلقطاته التي تقترب كثيرا من العالم السفلي، عالم المشردين والضائعين والباحثين عن المأوى وعن شيء يأكلونه ولو داخل صناديق القمامة، فيلما قائما بذاته، وعملا ينتمي بقوة إلى “الواقعية الجديدة”، وفيه يبدو تأثر المصور الأسترالي غريج فريزر بأفلام كلاسيكية شهيرة مثل “سارق الدراجة” و”ماسحو الأحذية” لفيتوريو دي سيكا، و”المنسيون” للوي بونويل في مرحلته المكسيكية الواقعية.

وتتضح لمسات الواقعية الصارمة في استخدام الظلال والصور الضبابية المغبرة واللقطات المأخوذة من وراء عربات القطارات، وعبور الأطفال قضبان السكك الحديدية، والقفز أمام السيارات، والدخان المتصاعد في خلفية اللقطة، مع غلبة اللونين البني والأصفر الداكن على الصورة.

ويتميز التصوير الذي يدور في الشوارع والكثير من العشوائيات الحقيقية بالصدق والجرأة الشديدة على اقتحام تلك الأماكن الخطرة ووضع الممثلين غير المحترفين، من الأطفال، في أجواء حقيقية واقتناص الكثير من اللقطات التلقائية، التي تضفي طابعا تسجيليا على الساعة الأولى من الفيلم.

في كلكوتا يلتقي سارو بامرأة جذابة المنظر قد تكون عاهرة، تعده بتقديم الطعام والشراب، تصطحبه إلى منزلها، لا يتبادل الاثنان الحديث بسبب اختلاف اللغة، يتأهب المشاهد لأن يرى المرأة تساعد سارو في الوصول إلى أسرته، لكن بدلا من ذلك تتصل برجل ليحضر كي يتحسس الصبي ويختبره، ويريد اصطحابه بعد أن يدفع للمرأة مبلغا من المال لقاء الصفقة، ربما يكون أحد تجار الأعضاء البشرية، وربما يكون قوادا سيقوم بتشغيل سارو في شبكة لدعارة الأطفال، الفيلم يكتفي هنا بالإشارة ولا يكشف بشكل واضح ويترك الاستنتاج للمشاهد نفسه.

في الجزء الثاني من الفيلم، حيث ننتقل من الهند إلى أجواء المدينة الأسترالية البديعة، يجسد المخرج ديفيز التناقض بين عالمين، ويركز على علاقة سارو المتوترة في البداية بأخيه المتبنى قبل أن يدرك مدى خطئه ويستدرك، فيصبح شعوره نحوه الشفقة بديلا عن الغضب، بعد أن تكتشف الأسرة أن الطفل مصاب بمرض عصبي يتسبب له في نوبات تشنج.

وأما علاقة سارو بصديقته لوسي فتساعد فقط على مجرد دفعه إلى العثور على أسرته الأصلية، عن طريق البحث عبر موقع غوغل، ويقضي سارو ليالي بأكملها أمام شاشة الكومبيوتر الشخصي يبحث في الصور ويحاول تحديد موقع بلدته، فيصبح غوغول هو المنقذ إلى درجة أن البعض سخر من الفيلم بقوله إن بطل الفيلم الحقيقي هو غوغل!

هناك تساؤل مشروع حول السبب الذي جعل سارو يصمت طيلة كل تلك السنوات الخمس والعشرين، وينسى وجود أسرته الأصلية، إلى أن يتذكرها فجأة، وهناك أيضا بعض الإطالة والتكرار في المشاهد الأخيرة من الفيلم، قبل لقاء سارو بأمه الهندية وعلمه بوفاة شقيقه جدو، وصولا إلى لقطة العناق الطويل بين الأم والابن التي تصل بالفيلم إلى ذروة الميلودراما.

ومع ذلك، ما يشفع للفيلم في رواية قصة نهايتها معروفة مسبقا، مستواه الفني الجيد الذي سيكفل لمخرجه دون شك العثور على فرص جديدة لإخراج أفلام أخرى أكثر طموحا.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى