عماد المي يستبدل في’الرهوط’ ثقافة الموت بثقافة الحياة

محمد ناصر المولهي

لا تخفى عن الكثيرين اليوم أزمة الهويّة التي تعيشها أغلب شعوب العالم وخاصة الشعوب العربية، التي يعاني أفرادها من التغييب والتهميش حتى تفسّخ ملامحهم وتحلّلها إلى لا شيء، لا شيء قاد الفرد العربي إما إلى التقليد والذوبان في الآخر أو رصده بالعداء، عداء للذات والآخر يشحنه بأفكار قديمة أماتها الزمن وأحياها غياب الملامح.

يفتتح العمل المسرحي “الرهوط أو تمارين في المواطنة” إخراج التونسي عماد المي، وآداء الممثلين عبدالقادر بن سعيد وغسان الغضاب وعلي بن سعيد وآمنة الكوكي ووليد عبدالسلام ومنى التلمودي، على غير العادة، من خارج قاعة العرض، حيث يخرج الممثلون مرتدين لباسهم الأسود وربطات العنق السوداء المخططة بالأبيض، يخرجون بأسمائهم وأشخاصهم لا شخصياتهم التي يتقمّصونها. في باب المسرح وبهوه يقومون بالترحيب بالجماهير وإرشادهم إلى داخل قاعة العرض.

هذه الخطوة بعيدا عن مسألة كسر الجدار الرابع والتغريب وغيره مما تندرج فيه، تتجاوز المسألة التقنية البرشتية إلى خلق علاقة حقيقية واقعية بين الممثل والجمهور. علاقة فيها من العاطفة والتفاعل حد العناق بين بعض الجمهور والممثلين، ما خلق علاقات خاصة نتبيّنها لاحقا فيما سيقدمه الممثولون للمتفرجين.
يظهر غير ما يخفي

بعد دخول الجمهور، صعد الممثلون إلى الركح، وكانت تلك الخطوة التغريبية الأولى، معلنة بداية العرض، وكانت أول جملة في خطاب مباشر يقوله ممثلان بقيا خارج الركح، أي مازالا في علاقة مع الجمهور، وتوجها إليه بضمير المخاطَب “جئتم للتفرّج على عمل مسرحي”، ويبدأ الممثلان في طرح الفرضيات عن أسباب قدوم الجمهور، المتعة أو طمعا في خرافة أو نسايانا لهموم الواقع وغيرها. لكنهما يكسران كل ذلك ممهدين بذلك إلى أن العرض الذي بصدده الجمهور، إذ يلفتان إلى أن ما سيشاهده الحضور ليس خرافة وليس عملا ذا شخصيات وبنية بداية ووسطا ونهاية، ويصعدان بدورهما إلى الركح. فما هو العمل إذن؟

على الخشبة تضج الحركة متداخلة، ويلقي الممثلون مقاطع من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هذا الذي جاء أواسط القرن العشرين لإنهاء أكبر الحروب وأبشعها. الحرب العالية الثانية التي أنهكت الملايين من البشر والحجر بالموت والدمار.

كل ممثل يصدح بجملة من الحقوق “لكل فرد الحق في”، السفر والحياة التنقل الحرية الدينية وغيرها من شريط الحريات الذي يطول ولا يقصر نظريا. تتداخل الحركة أكثر. يتسارع الإيقاع. حقوق حقوق حتى يلتئم الممثلون الستة في دائرة تحت الضوء ممسكين بربطات العنق كحبال مشانق ناظرين إلى السماء، وكأن الإنسان يختنق بما تزيّن به من قشور تنظيرية لا واقع لها. قشور واهمة لا تعكس العمق. يشكلون ما يشبه سحابة القنبلة الذرية. فعل واحد هو الموت يفني حبالا طويلة من وهم الحقوق والحريات التي بان بالكاشف زيفها وميزها منذ تأسيس الأمم المتحدة، حيث لم تتوقف الحروب بل زادت بشاعتها وتعاظم عنفها الذي مزق العالم ومازال.

يبقى ممثل واحد على الركح يتحرك بصعوبة في حركة لولبية تضيق كلما دار على نفسه. يمشي بصعوبة، وكأنه يتعلم المشي. ينطق حرفا واحدا “صه”. يحاول أن يمشي وأن يتكلم. يحاول أن يولد من جديد. لا ولادة في معناها البيولوجي بقدر ما هي ولادة الكائن الواعي. كائن اللغة. تأتأة تنتهي أخيرا بمنطوق “نحن الذين واللواتي” ثم يواصل الممثل تعديد “النحن” وصولا إلى الخبر “نعبّر عن استنكارنا” ثم “تمجيدنا”. العلاقات هنا هي علاقات لغة، بين الاستنكار المتمرد والتمجيد الذي واكب الإنسان مع ظهور السلطة وانقياده إليها. بين حاكم ومحكوم وظهور الدين وتحوله إلى عابد ومعبود.
حركات الممثل علي بنسعيد على الركح أشبه بحركات مهرج. مهرج يمزج الكلمات الكبيرة التي تُعنى بالحقوق والتوصيف النافذ للإنسان عبر لغة عربية مشحونة شاعريا، بالحركات المتوالدة من بعضها البعض، وكأننا بأنفسنا أمام ما يشبه الكوميديا السوداء. كوميديا الحقوق والوجود الإنساني الذي يظهر غير ما يخفي.
يذهب رهط يأتي آخر

تتوالى المشاهد ولكل واحد من الممثلين الستة آراؤه، قصيدته، موقفه من الحياة ومن تفاصيلها الصغيرة منها والكبيرة. موقف من العالم ومجتمعاته وحكّامه، لا أدل على ذلك المشهد الذي اجتمع فيه خمسة ممثلين في حلقة نقاش. الكلّ على كرسيه يعطي رأيه في ما آل إليه الإنسان.

واحد يرى أن غياب الحب سبب الحال المتردي وأخرى ترى الفساد سببا في تعكر حال الإنسان اليوم، فيما يرى المثقف أن السبب أكبر، مستشهدا بأفكار لينين وماركس بشكل مضحك، بينما يرى آخر أن السبب هو تردي العقول. هذا حوار تقريبا من الحوارات القليلة التي تمت باللهجة العامية التونسية، وإن تعددت فيه الأطروحات المضحكة والجدية فإن نهايته هي الحقيقة المرة التي نعيشها في الواقع خاصة بعد الثورة التونسية التي فسحت المجال للجميع ليقول رأيه ويعبّر عنه. فتحول الرأي إلى عنف الانقسام وعنف التشتت والدغمائية، حيث يتفرق المتناقشون بحدة بين من يأخذ كرسيّه ليذهب إلى اليمين ومن يأخذه ليذهب يسارا والاختفاء من الركح.

العمل لا يقوم كما أسلفنا على خرافة أو حكاية، حتى الشخصيات لا أسماء لها، هم فقط مواطنون في دولة هي “دولة الرهطيين”. دولة فيها المحكوم بلا وجه والحاكم أيضا، وقد اعتمد عماد المي على البيان السياسي الذي ألقاه الرئيس التونسي الذي أطاحت به ثورة 14 يناير 2011 زين العابدين بن علي عندما أطاح في العام 1987 بالرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، معلنا توليه الرئاسة.

نفس المشهد يجسده الممثلون مرتدين أقنعة على طاولة الحكم، حيث يدخل الممثلون على أنغام موسيقى حربية، يضعون الطاولة وخلفهم تضاء كرة أرضية صغيرة، وهو ما مثل المحاور الثلاثة البارزة في العمل، وبعد ديباجة يلقيها “كبير رهطيي” الطاولة يمجد فيها زيفا الرهط السابق وتضحياته الجسام، ثم يتولى هذا الرهط الثاني حكم جمهورية الرهطيين، ثم يتكرر مشهد التولي هذا مرتين، الأولى يأتي فيها رهط ثالث ليعلن عن توليه الحكم بدل الرهط الثاني، فيما هو لا يتقن حتى الكلام والنطق بشكل جيد وحتى الطاولة ناقصة. تتناقص الطاولة لتبقى منها السيقان فحسب في مشهد تولي رهط آخر للحكم بدل الرهط السابع. دون كلام فالكلام عهدناه وحفظناه. يذهب رهط ويأتي آخر. لا شيء يتغير لمن ينتظر من الحكام أن تصلح من أمورهم فيما الصلاح بأيديهم، الصلاح للشعب وليس للحكام.

تنتقد مسرحية “الرهوط أو تمارين في المواطنة” الواقع السياسي التونسي ومن خلفه العربي وحتى العالمي، حيث الإنسان لم يحقق مكسبا من ميثاق الحريات والحقوق، ولم يحقق غير استعباد أكثر. يتطرق العمل هنا إلى أدق التفاصيل الاجتماعية كذلك من الإنجاب إلى الزواج إلى الوظائف المفقودة إلى العلاقات البشرية الباردة وغيرها من المشكلات التي لا يعالجها الممثلون بل يقترحونها فحسب. هم يقولونها، يشيرون إلى الداء، يشخّصونه بدقة، يسخرون ويبكون، وهنا يمتزج الضحك بالبكاء، المزاح بالجد، الحركة بالكلمات، كلمات أغلبها من شعر، حيك اعتمادا على قصائد أبوالقاسم الشابي ومحمد الماغوط وأحمد مطر.
الإنسان هو الوطن

تنتقد المسرحية حتى هوس الشعب بكرة القدم من خلال مشهد يتنازع فيه الممثلون في ما بينهم لأجل كرة. كرة زرقاء مرسومة عليها خارطة العالم، حيث أصبحت هذه الرياضة الأكثر شعبية في العالم، لكنها أبعدت الناس عن مشاغل كثيرة، بل أصبحت أداة بأيدي السياسيين من أجل تطويع الأذهان والعقول وحتى الأجساد. هذا ما هو جلي في الواقع التونسي مثلا، فمن يريد تبوأ منصب سياسي يبدأ من نافذة كرة القدم وكسب جمهورها، أي كسب أناس أكثر لمشروعه السياسي السلطوي.

تكسر مسرحية “الرهوط” النمط التقليدي للمسرح المبني على الخرافة والعقدة وعلى الشخصيات والحوار، وفي الحقيقة هي لا تقدم ذلك، بل تقدم عملا مفككا في ظاهرة إلى مقاطع لغوية وحركية تجمع بينها محاور أساسية، مثل مشهد تولي الحكم أو المشهد الراقص الذي نرى فيه ألواحا تتحرك على الركح وبينها ممثل يتكلم صارخا إلى أن يغيب خلفها. تربط المسرحية العمل في مناخ متصاعد بالصوت والضوء والحركة والخطابات، فيها من يكون ضد الحكام وفيها من يكون ضد الشعب الخائن، فيها من يدعو الناس إلى الضحك نظرا إلى حال الرفاه الذي يعيشونه، وفيها من يدعو إلى البكاء على الحال. مزيج فريد متناقض هو عيّنة فنية مكثفة من واقع متشظ.

نقد لاذع يصل حد الختام، حيث يستند إلى مقطع من النشيد الوطني التونسي وبيت من قصيدة أبوالقاسم الشابي “نموت نموت ويحيى الوطن”، ليقلبه أحد الممثلين يجلس وسط الجمهور خارج الخشبة إلى “نعيش نعيش ويحيى الوطن”، حيث الوطن هو الشعب، هو الإنسان ولا وطن بلا إنسان، فماذا يبقي من الوطن إذا مات الإنسان فينا؟ هكذا كان النشيد الذي قدمه الممثلون “نحن الوطن” تاج ختام لرحلة خطابات متباينة ومتداخلة. في النهاية الإنسان يقوم على الاختلاف، لكن لا خلاف على كرامته وحقه في الحياة، لا خلاف على مقاومة التطرف والجهل، ولا خلاف أيضا حول أن الإنسان هو الوطن.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى