‘يوليانا’ .. رواية الحب المستحيل

هدية حسين
يلامس التاريخ ويتلاعب به لصالح الفن، يحلق بنا حيث المحسوس والروحاني عبر حكاية تجمع بين الواقعي والمتخيل لتقترب من السحر، إنها رواية “يوليانا” للقاص والروائي نزار عبدالستار، رواية تأخذك من عالم الفوضى الى الصمت المقدس، تنكت عنك غبار الماديات لتعلي من شأن الحب بين البشر، بلغة سحرية وساحرة، ثرية وأخاذة.

هل بإمكان الإنسان أن يصنع له حياة بلا خطيئة؟ هذا ما سعى اليه المؤلف من خلال شخصية ججو بنيامين ومن ثم ابنه حنّا، من دون أن يكون الإثنان مؤهلين لذلك من الناحية النظرية، وهذا ما سعت الى عكسه روز أم ججو لتنقذه من الإهانات التي يتلقاها من بني البشر، ومن بعدها ما فعلته ياسمين مع حنا، الذي ورث عاهة أبيه الجسدية، العاهة التي جعلت ججو أضحوكة الآخرين على الرغم من سلميته وتسامحه وخدمته في الكنيسة، ليفرغ شحنة الحب خالصة لله، ثم وقع في حب القديسة يوليانا التي توفيت منذ عشرات السنين بقطع رأسها في العام 305 نتيجة تحولها من الوثنية الى المسيحية، كان أبوها وثنياً وأراد تزويجها للحاكم الذي أحبها فرفضته إكراماً لإيمانها، فكيف يحدث الحب بين حي وميت؟

من خلال هذه العلاقة، وعلاقات متشابكة أخرى بين شخصيات عديدة، يلقي نزار عبدالستار الضوء على حياة المسيحيين العراقيين في مدينة كرمليس وكنيستها العتيقة، ويبدو ملماً بكل التفاصيل والطقوس الكهنوتية والحياة الاجتماعية المشدودة الى أركان الكنيسة، ويخلق عالمه الروائي الصعب والسهل في الوقت نفسه، ليدخل الى عوالم شخصياته المأزومة والمنتفعة والباحثة عن طريق للخلاص والساعية لحب الله، أو اللاهثة وراء شهواتها في طرق الشيطان، رواية أقل ما يقال عنها بأنها استثنائية في موضوعتها، وراقية بلغتها السخية، وثرية بمفرداتها.

وما محنة ججو بنيامين الا محنة البشر الساعين للخير في خضم انتشار وتغلغل الشر في النفوس، محنة إنسان أراد أن يحب كما البشر فحاربوه، وأراد أن يكون أقرب الى الله فحاولوا إبعاده، ولم يتوانوا عن رجمه بالحجارة، لأنهم نظروا الى شكله وأغفلوا المضمون الكامن في قلبه وروحه، حتى الكنيسة ظلمته بالرغم من محاولات القس يوسف الى دفعها للاعتراف بججو ومنحه رتبة الشموسية أو كقديس يطارد الشر قبل أن يقع، أو من باب الاحتراز لئلا يقع الشر ويتمكن من النفوس.

أولى نزار عبدالستار الكثير من الاهتمام ببناء شخصية ججو من الناحية النفسية لتأتي متوافقة مع سلوكه القلق وطيبته المفرطة وحبه للخير ومحاولة تخليص الناس من الشرور المحدقة بهم وفقاً لتصوراته التي تبدو في معظمها ساذجة لأنه طيب حد السذاجة ومعلوماته عن العالم المادي فقيرة لدرجة أنه يظن أن “الروك أند رول” مجرد مرض وأن “برجيت باردو” قديسة.

وكذلك سيفعل الكاتب في رسم شخصية حنا الذي ورث العاهة نفسها، كما ورث حبه لخدمة الناس وخضوعه لأوامرهم، لكن أموراً كثيرة بفعل مرور الزمن ستتغير، وتتغير معها مدينة كرمليس، ويتقبل الناس كل المتغيرات راضين بها أو رافضين لها، وسيتحول شيئاً فشيئاً من شبيه لججو في السلوك الى شخص آخر تشكله شخصية ياسمين لأغراضها الدنيوية فيصبح قواداً لها، ومع ذلك تتجلى له القديسة يوليانا ذات زيارة ثم تحل في غرفته، وهنا، وفي مواضع كثيرة من الرواية يلعب الكاتب على المزج بين الواقع والخيال فيقدم خلطة من الواقعية السحرية التي لابد منها في هذا العمل للتخفيف عن مرارة الواقع.

لنقرأ هذا المقطع على الصفحة 233 حين تتجلى القديسة يوليانا لشمونيا وياسمين بحضور حنا:

“لقد أرسلني الرب إليكِ كي أريك الحقيقة، حقيقة أنك الى الآن تحملين البيض والطحينية.

ارتجفت شمونيا وأخذت تبكي، قالت يوليانا وهي تنهض:

ـ أنا لم أرسل ججو الى الموصل، الرب أراد هذا لأنه يعرف أن كل شيء زائل إلا حبك لججو، لا قيمة لحياة ممكن نسيانها، لا قيمة للطعام والملابس والمال، إثم الإنسان يقع مع الأشياء التي بلا قيمة، لهذا لا إثم في الحب أيتها العاشقة، العاشق لا يكذب ولا يخون ولا ينسى، لقد فعل الرب ما فعل لأن حبك أكثر رسوخاً من الحياة، مهما طال الزمن بكِ ومهما ذقتِ من الملذات ونلتِ من القوة، ستبقين حاملة البيض والطحينية، هذه هي رسالة الرب وقد نقلتها لكِ يا شمونيا”.

كل التغيرات التي طالت مدينة كرمليس جاءت متوافقة مع التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها العراق، ومنها الحرب العراقية الإيرانية وما تبعها، وحيث أصبحت مدينة كرمليس متفتحة على عالم تلك التبدلات كقبولها بوسائل العصر الحديثة، وقد أدار الكاتب الصراع بين مهمات الكنيسة وأهواء المتنفذين في السلطة بحذاقة وبحرفية، صراع يتكىء في جانب منه على التاريخ، وفي الجانب الآخر على المتخيل الذي يتلبس الواقع من خلال شخصياته الحية، بين ساس الأميركي، والوجيه بطرس ذي الأصول الإيطالية، وأبلحد الذي يحمل لواء التغيير في المدينة تبعاً لمصالحه الشخصية، وأيضاً بين ججو وابنه حنا وبقية الشخصيات، وأرواح القديسين أيضاً.

(ميدل ايست أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى