جدل الواقعي والفانتازي في قصص «دفتر النائم» لشريف صالح

علي كاظم داود

مع كل نتاج قصصي جديد يأتي التأكيد على أن القصة القصيرة فن جدير بتمثيل أزمات الإنسان ـ ومن ورائه المجتمع ـ والكشف عن مكنوناته، فهي رغم اختزالها وارتكازها على التلميح السردي، بحسب طبيعة معالجتها، لكنها تمتاز بقدرة كبيرة على فضح الخبيء والمُضمر والمسكوت عنه، ويمكنها الاستجابة لتطلعات الإنسان ورغباته، من خلال صناعة واقع متخيل يضاهي الواقع الحقيقي، قد يتطابق أو يتناقض معه، في سعيها لخلق بيئتها البديلة الخاصة بها. وهي بذلك تمتلك إمكانية تمثيل الواقع والتعبير عن مقاطع منتقاة من الحياة وملامسة تفاصيلها بحميمية أكبر ومتابعة أحداثها بعدسة مكبرة.
عندما نقرأ المجموعة القصصية «دفتر النائم» للكاتب المصري شريف صالح والصادرة في القاهرة عن مؤسسة أخبار اليوم قطاع الثقافة عام 2015، التي امتازت بكونها من بين أجمل القصص سبكاً وأكثرها إتقاناً وأعذبها لغةً وأرشقها سرداً، نجد أنها تتوزع على ثلاثة انشغالات مركزية حضرت بشكل متفاوت في قصصها الأربع والعشرين:
الانشغال الأول: يتمثل في ملاحقة آثار الزمن على جسد الإنسان، إذ يبدو لنا كل شيء في القصص يقاوم الزمن إلا الإنسان، فإنه يشيخ ويهرم، في سيره الحثيث نحو النهاية ورحيله الأبدي عن الحياة، فالزمن يسير إلى الأمام باستمرار وليس ثمة «قوة في هذا الكون كله قادرة على أن تعيد تلك الدقيقة إلى الوراء أو أن تسحب رأسي المندفع بعنف إلى الأمام وتعيده إلى الخلف مرة أخرى» كما في قصة «تووووت». نقرأ كذلك في قصة «رحلة النهار والليل»: «كنت أرى جسده يزداد انحناءً وشعره يبيض ويتساقط». وفي «كوخ ست الحُسن» نسمعها تقول له: «شعرك شاب كثيراً منذ رأيتك أول مرة». فضلاً عن إشارات عديدة في قصص أخرى تلاحق ندوب الزمن وآثاره في الشخصيات، وفي المقابل نجد أن الأشياء التي تُؤثث فضاءات القصص تحتفظ برونقها، رغم سير الزمن وتبدل حال الإنسان، فيتساءل أحدهم في قصة «الخالة اليابانية»: «هل الكيمونو الذي احتفظ بجماله رغم مرور السنين له علاقة بشقاء عائلتنا؟»، ومثل ذلك «تبدو الأشجار التي لا أعرف اسمها كأنها في هذا العناق منذ عشرات السنين، غير مبالية بآلاف السياح الذين جاؤوا وذهبوا ومروا أسفل منها» في قصة «قصر الأموات».
الانشغال الثاني: يتجسد في تمثيل مشكلات الحياة وتناقضات الواقع وفوضويته ومآزق الإنسان في ظل ذلك. وهو ما نجده في قصص عديدة من المجموعة تميّزت ببنائها الواقعي وتمثيلها الصادق لمجرياته، في إطار حرصها على إبراز معاناة الشخصيات وترسيم الخطوط المهمة أو المؤثرة في شؤونها الحياتية من خلال السرد، كما في قصة «زيارة صاحب العمل» وقصة «حفلة عربية» وقصة «أسرة أمام التلفزيون».
الانشغال الثالث: نلاحظه في النزوع نحو عوالم الأحلام والخيال الفانتازي لتنكشف فيها، بوجه سافر، مخاوف ملتبسة وأحزانا عميقة ورغبات مكبوتة. وهذا هو الانشغال الأوسع في المجموعة، فقد استولى على العدد الأكبر من قصصها، مثل: «هروب جسدي، وحقك من الدنيا، وإحياء الطفل، ومملكتي مقابل امرأة، وضحية آخر الشارع، وشقة الحفيد الأمريكي» وغيرها.
من خلال هذه الانشغالات السردية للقصص يمكن أن نلمس أنها عندما عالجت الواقع اصطدمت بحقيقته العقيمة ونهايته الحتمية الوشيكة، إذ تسير به عجلة الزمن بشكل حثيث نحو زواله المحتوم، فلم تجد ـ أي القصص ـ مهرباً وملاذاً إلا في عوالم الحلم وما وراء الواقع والفانتازيا، فزجّت بشخصياتها في دواماتها التي لن تكون مثالية أو رائقة في كل الأحوال، إذ علينا أن نتذكّر دائماً، أن أي كتابة، مهما كانت خيالية أو فانتازية، هي في النهاية كتابة عن الواقع، وانعكاس تخييلي له، لكنها ترتدي قناعاً أو زياً تنكرياً تحاول التخفّي وراءه.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى