الفيلم الفرنسي «داليدا»… إيقاع الموت المُبهج والروح الهائمة

محمد عبد الرحيم

كان أندريه بريتون يسير ذات يوم، فوجد فتاة تجلس على أريكة حديقة، تبادل معها بعض الكلمات البسيطة، ثم تركها دون الاتفاق على لقاء آخر، وهكذا تكررت اللقاءات دون أي اتفاقات مسبقة، وحينما سألها «مَن أنت؟»، أجابت الفتاة «أنا الروح الهائمة». كانت «نادجا» التي خلّدها بريتون في مؤلف يحمل اسمها. نادجا التي اختفت فجأة كما ظهرت فجأة، واستطاعت أن تجد مُستقراً لروحها في النهاية. ومن التقارب ما بين «نادجا» و«يولاندا» يمكن أن نبدأ..
يولاندا جيغليوتي (1933 ــ 1987) الشهيرة بـ«داليدا»، التي بدأت مشوارها الفني منذ فوزها بمسابقة ملكة جمال مصر عام 1954، ومن وقتها أصبحت تجسد تناقضات الحياة ما بين أضواء الشهرة وعتمة الروح. وكأي بطل مأساوي تحمل حكايته الكثير من التفاصيل والأكثر من التأويل، جاء الفيلم الفرنسي «داليدا» ليقترب من هذه الحياة، ويحاول إعادة صياغتها في عمل سينمائي يحمل الكثير من التعاطف لهذه الشخصية القلقة والمضطربة. وإن كان الموت هو الدائرة التي دارت داليدا في فلكها، إلا انها اســــتطاعت أن تمــــنح الآخرين الكثير من السعادة، جمهور وعشاق ستظل باقية في ذاكرتهم.
الفيلم أداء، سفيفا ألفيتي، ريكاردو سكاماركاو، جان بول روف، نيكولا ديفاوشيلي، فالنتينا كارلي، وفينسينت بيريز. والفيلم سيناريو وإخراج الكاتبة والمنتجة الفرنسية مغربية الأصل ليزا أزويلو. وعُرض مؤخراً ضمن عروض سينما زاوية في القاهرة.

دليل الموت الصغير في متناول الأحياء

كثيراً ما كانت داليدا تقرأ في كتاب بعنوان «دليل الموت الصغير في متناول الأحياء»، ولم يكن من المصادفات أن تظل تقلّب في صفحاته، وترى من خلاله بعضا من تفاصيل حياتها. كما لم تكن من المصادفة حالة الانجذاب نحو الموت، التي أصبحت أساس تلك الحياة، وما الاستثناء سوى فترات النجاح والشهرة والصخب، والأغنيات المُبهجة كشكل من أشكال التحايل على الموت. لا مفر من البداية بالموت، وهو ما صاغ حياة داليدا بكاملها، ومنه تمت صياغة السيناريو، كمحاولة لإظهار تناقض امرأة تمنح أغنياتها السعادة للآخرين، بينما الموت يرسم طريق خطواتها. الأب الإيطالي عازف الكمان في دار الأوبرا المصرية، لم يسلم من أجواء الحرب العالمية، ويصبح في نظر البريطانيين جاسوساً لهتلر، لتموت صورة الأب وهو في طريقه إلى المعتقل أمام طفلته الصغيرة، وبعد عودته وقد أصبح شخصاً آخر، تدعو الطفلة في سرّها بأن يموت الرجل بالفعل، وقد أصبح شخصاً آخر لا تعرفه، وعندما يرحل تعيش يولاندا بعقدة ذنب، لن تحل إلا بموتها.

مثل أي امرأة عادية

تبدأ داليدا حياتها الفنية الحقيقية في باريس، وتتصاعد شهرتها، متوهمة أن الحياة ستغني معها أغنياتها المُبهجة، إلا أن روحها لن تهدأ مهما تظاهرت بغير ذلك. يبدأ الفيلم بمحاولتها الفاشلة في الانتحار عام 1967، ومن خلال هذه الرؤية يبدأ سرد التفاصيل، من طفولة متوترة وشهرة وقصص حب فاشلة، بل السعي جاهدة إلى لحظات من السعادة، صاحبتها هي الوحيدة التي تعرف مصيرها في النهاية. وكمحاولة لأن تصبح الحياة أكثر هدوءاً تحاول الزواج من منتجها الفني، الذي يراوغ في البداية قائلاً «ماذا ينقصك؟ كل امرأة عادية تحلم أن تكون مثلك»، فترد «وأنا أريد أن أكون مثل أي امرأة عادية». هذه العبارة التي تصبح كأمنية وحيدة، تتبدد بدورها في دائرة العشاق المفقودين، الواحد تلو الآخر، الذين انتهت حياتهم، وشبح داليدا يطوف حولهم.

مدارات الفقد

حالة الخوف من الفقد هي التي كانت تسيطر على حياة داليدا، فكلما طالت الرحلة وامتدت، كانت فرص الفقد أكثر، هذه الحياة المبنية على الفقد هي التي عاشتها واستهلكت روحها، على الرغم من محاولاتها المستميتة للفرار أو النجاة، لكن لا جدوى ولا أمل. وككائن محكوم بموت، كانت مسألة البحث عن آخر وآخرين لا تتوقف، انكسارات ودموع وهزائم، لكنها لا تتوقف وتواصل السعي جاهدة وبكل طاقتها لإنقاذ هذه الروح من مصيرها الذي تعلمه جيداً. الموت مجدداً، وحيوات يتم اختزالها في تذكارات بسيطة، من تجاعيد وتقدّم في السن، والرعب من دمامة لطالما اتهمت بها وهي طفلة من قِبل زميلاتها في المدرسة، لكنها الآن تتجسد أمامها، فتدخل بإرادتها دائرة عزلتها، وكأن الصورة اكتملت الآن، ولا مفر إلا بالخلاص من هذا الجسد ووجه صاحبته، فاللعبة التي مارستها طوال حياتها بترك عشاقها وطردهم من مدار رحمتها، حانت نهايتها، ولن تستطيع أن تتقبل لعب دور المهجورة.

المرآة والروح الهائمة

في مشهد حاول أن يبدو كمعادل سينمائي لحياة داليدا، بتجسيد حالة التناقضات والاضطراب، ما تنتويه وما تخشاه، يأتي مشهد المرآة، حينما طلب منها منتجها الفني الزواج. داليدا داخل حجرتها في المسرح وتستعد للخروج إلى الجمهور، جالســـة أمام مرآتها، وتلتفت إلى الرجل الذي طلبها للــــزواج، ليتجزأ وجهها إلى ثلاث حالات مختلفة.. صورتها المنعكسة في الجزء الأيمن من المرآة ترفض قائلة «لم أعد أحبك»، بينما اليسرى تنطـــــق «نحن صديقان»، وبينهما وجهها وهي تومئ موافقة «نعم». بينما صاحبة الجســـــد تجلس لتواجه الكاميرا صامتة.
هذا المشهد الذي يعتبر من أهم وأكثر المشاهد دلالة على حالتها النفسية وما تستشعره وتحاول أن تتواصل أو تهرب منه خشية فقده بعد ذلك، وقد حدث بأن أردى الرجل نفسه بالرصاص.

لتكن أغنيات.. لتكن حياة

وحلوة يا بلدي. من خلال أغنياتها الشهيرة، جاء سرد الأحداث، والحالات المختلفة واللحظات الدقيقة في حياتها، لتصبح بدورها أكثر تعبيراً وتجسيداً لسباق الخسارات المحتوم. هناك أضواء وصراخ الجمهور، وهناك امرأة تتصدر المسرح ويدها دائماً ترتفع عالياً وهي في نوبة الغناء، لكن هذه الأغنيات لا تخفي ما كان يحدث خلف الكواليس، أو وداع عاشق من وراء نافذة زجاجية ماطرة، أو فقد طفل لن يزورها مرّة أخرى، وفي ظل ذاكرتها البعيد يقف والدها، تجربتها الأولى في عالم الفقد والألم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى