بلاغة الضحيّة ونبلها

خيري منصور

في الذكرى الخمسين لرحيل الشاعر الإسباني لوركا كتب محمود دويش مقالة بعنوان «خمسون عاما بلا لوركا»، وها نحن نكتب عنه بعد مرور ما يقارب العقد من غيابه، والمشترك بين الشاعرين هو الأخضر، فالأندلسي والفلسطيني لهما منابع شعرية وإنسانية مشتركة وإن افترقا في المصب.
ولد محمود درويش على بعد أقل من شهر من أبريل الذي وصفه بالتردد، حيث الشمس تراوح بين الوضوح والغموض وكأنها تلاعب الغيوم، وأبريل كما وصفه الشاعر إليوت، الشهر الذي يمزج الرغبة بالذكرى، وتردده بالنسبة لمحمود هو أحد العناصر التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش، فهو كأول الحب ومسرحيات أسخيليوس وامرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها.
غياب محمود مزدوج لدى من اقتربوا منه حتى أصغوا إلى أنفاسه وهم يفتقدون رشاقة ذهنه وسخريته المهذبة، وما أن يشرعوا في إعادة قراءته حتى يستشعروا غيابه في المكان والزمان.
ومرور عقد أو ما يقاربه بلا محمود درويش يعني عدة أشياء دفعة واحدة، في مقدمتها ما كان سيكتبه لو بقي على قيد الحياة والشعر في ذروة سني نضجه، ومنها أيضا ما أصاب الشعر العربي من تصحر في أعوام ربما كانت الأعجف في تاريخنا المعاصر، حيث أعاد التاريخ أيام العرب وحروب البسوس وداحس والغبراء بطبعات جديدة، وأسلحة جديدة، لكن بلا عكاظ. وكان محمود قد تنبأ بالكثير مما يجري الآن وقال قبل اربعة عقود: ندعو لأندلس إن حوصرت حلب، وها هو الحصار يشمل التضاريس كلها من الماء إلى الماء ومن الدم إلى الدم لكن بأساليب مختلفة.
ما من أحد مهما أحب محمود بمقدوره الادعاء بأنه أخذ الشعر معه إلى ذلك العالم البعيد، لكنه بالتأكيد أخذ منه عنقودا وشيئا من الرحيق، فهو الشاهد الذي اتسعت زنزانته في حيفا لأمة بأسرها وأسراها، لقد حاول محمود تدجين الموت رغم كل توحشه بحيث يداعبه كقط أو كلب أليف، لكن الموت خذله واستعاد وحشيته كلها منذ أول موت وحاول ابتلاعه، لكنه ككل الباقين والعابرين لزمانهم كان وما يزال عسير الهضم، لهذا فهو مات إلى حدّ ما، وقيامته ليست آجلة إلى الحدّ الذي يدفع إلى تناسيه لأن نسيانه ليس متاحا إلا لمن أصابهم زهايمر الشعر، وتصوروا أن الأفق الذي كانوا يرتطمون به أصبح مفتوحا.
إن الحياة تصبح أحيانا جملة مبتدأها المهد وخبرها اللحد، قدر تعلق الأمر بالشرط العضوي لهذه الكائنات، لكن من عثروا على الخيط الحريري الذي يربط العابر بالأبدي والهُنا بالهناك والآجل بالعاجل يحضرون في أقصى الغياب.
ما من مرّة اقتربت منه الا وارتعشت أصابعي، لأنه أصبح هناك، والكتابة عنه تشترط أمانة ووفاء قد لا يكونان من نصيب البشري ذي النفس الأمارة بالسوء، لكن على الرغم من ذلك، أشعر أحيانا بأن هناك أحياء موتى لهم ضجيج وزحام مقابل موتى أحياء يرشح من صمتهم عبق يقاوم الأكاسيد التي تفسد بالفضاء.
ذات مساء فوجئ محمود بحمامة ميّتة على شرفة منزله، وظن أنها رسالة وبالفعل أصيب بأول نوبة قلبية بعد أسابيع، ورأى البياض البكر ومات كما قال لدقيقة واحدة على الأقل . فهل مات محمود مرّتين؟ وهو الذي ولد عدة مرات إذا صدقنا أن المبدع يولد مرارا، بل يكون أبا نفسه وابن ذاته التي يولد من صلبها، أعرف إغراءات المجاز ونحن نكتب عن أحد سادته، فالكتابة بالنسبة إليه هي اعتذار التاريخ عن كل ما اقترف، وإن كانت لعنة الجغرافيا وسعارها عندما يختزل الإنسان إلى طفولته فقط، ويبقى إلى الأبد أسير مسقط رأسه.
ومن كتب عن زفرة العربي الأخير، شاهد ذات يوم ذلك الباب الذي خرج منه أبو عبد الله الصغير عشية سقوط غرناطة، ثم عاد ليكتب عن الهندي الأحمر الأخير، لأن التراجيديا تتسع للأجناس كلها، والضحايا يولدون بأسماء مختلفة لكنهم يموتون بائتلاف يحذف الفوارق ولا يبقي سوى أداة القتل والإبادة، سواء كانت سكينا أو مقصلة أو دبابة.
ضاق محمود حيّا بالوطن التجريدي، وترجل عن النشيد مثلما ترجل الحصان عن القصيدة، ليلامس التراب ويشمه ثم يبشر بالوطن البسيط، ويعلن أنه يحب الورد لكنه يحب القمح أكثر، ويعلق من سقف إحدى قصائده جدائل من الثوم بدلا من باقات الورد.
وضاق محمود أيضا بالمعصومية الباهظة التي أسبغها البعض على الفلسطيني، ولأول مرة يستأذن شاعر الأسطورة لكي يكتب عن بطل من العاديين من طراز أحمد الزعتر المنسي بين فراشتين، ومن قال إن نيرون مات ولم تمت روما آمن بأن كل هذه الدماء لن تشربها الرمال، وأنها ستعثر ذات يوم على المصب لأن حبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل.
إن الفارق بين أن تكتب عن شاعر وبين أن تكتبه هو المعادل الموضوعي للفارق بين الشفق والغسق، فالتشابه بينهما لا ينفي التناقض بل يكرسه. وما أحسه محمود بعد نصف قرن من رحيل لوركا في ظروف غامضة يستدعي في ذكرى مولده سؤالا موازيا عن عقد من الزمان بلا محمود درويش، فهو لم يكن بحاجة إلينا كي يكون ما كان، لكننا بأمس الحاجة إليه كي لا تكون الجريمة كاملة باختفاء الشهود، وكي لا تفقد التراجيديا بلاغتها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى