‘كابتن فانتاستيك’ هجائية مرحة لأميركا

أمير العمري

لا شك أن الخيال هو أكثر العناصر بروزا في الفيلم الأميركي “كابتن فانتاستيك” (Captain Fantastic) للمخرج مات روس، فالخيال هو العمود الفقري لأي فيلم، والقدرة على تجسيد الخيال مهما كان جامحا هي أساس عملية الإخراج السينمائي. وليس المقصود بالخيال القصص الخيالية التي تدور في عوالم بعيدة عن الأرض مثل سلسلة “ستارترك” مثلا، التي يأتي ذكرها في سياق فيلمنا هذا، بل المقصود ابتكار شخصيات وعلاقات ومواقف نابعة من الافتراضات الخيالية لمؤلفها، تربطها حبكة معينة تستند إلى أشياء حقيقية موجودة في الواقع بالطبع.

ليس من الممكن إذن أن يتم الحكم على الفيلم من منظار الواقعية، أي قدرته على أن يقنعك بواقعية شخصياته وأحداثه، فالفيلم يخلق واقعه الخاص، لكن من المشروع تماما في النقد التساؤل عما إذا كان الفيلم مقنعا أم غير مقنع، بغض النظر عن علاقته بالواقع.

الفكرة باختصار هي ماذا قدمت أميركا لسكانها؟ وهل من الممكن أن يقرر رب أسرة أن ينعزل بأطفاله الستة عن المجتمع من حوله؟ وأن يخلق “يوتوبيا” خاصة به كما يراها ويتخيلها؟ وأن يستغني بالكامل عن المؤسسات الاجتماعية القائمة بدعوى رفض القيم الاستهلاكية الشائعة وقيم الملكية والتعليم الرسمي التقليدي؟ وأن يستقل بأسرته تماما عن المدينة الحديثة ويعود بها إلى الطبيعة؟ أم أن هذا يعتبر تسلطا من جانب الأب وتدميرا لبراءة أطفاله، وفرض رؤيته الخاصة عليهم فرضا، وحرمانهم من حق الاختيار؟
الأب المعلم

يقوم بالدور الرئيسي الممثل الأميركي فيغو مورتنسن الذي يتقمص ببراعة فائقة دور “بيل كاش” الذي أنجب من زوجته “ليزلي” ستة أطفال، ثلاث بنات وثلاثة أولاد، أكبرهم لا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وقد اتفق الوالدان على تنشئة أبنائهما بعيدا عن المدينة فاختارا السكنى في غابات واشنطن، ولكن الزوجة أصيبت بمرض عقلي وأدخلت المستشفى على نفقة والدها، وأصبح الأب “بيل” الذي يطلق لحيته ويرتدي ملابس غريبة تشبه ملابس “الكاوبوي” بألوانها الصارخة، مسؤولا عن تربية وتنشئة الأطفال، فأخذ يدربهم على الدفاع عن النفس باستخدام السكاكين، واصطياد الحيوانات البرية في الغابة والاعتماد على الصيد كوسيلة للحصول على الطعام، واكتساب القوة البدنية بتسلق الجبال بما في ذلك من خطورة.
والأب يصدر الأوامر لأبنائه كما لو كانوا جنودا في الجيش، فهو لا يعاملهم كأطفال، بل كبالغين يدفعهم أيضا في اتجاه برنامج تعليمي ثقافي مغاير لنظام التعليم العام، فهم لا يذهبون إلى المدارس، بل يتعلمون من خلال القراءة والتلقين، يقرأون ويناقشون الكتب الأدبية الرفيعة (ديستويفسكي ونابوكوف وغيرهما)، مع الاستناد إلى أساس فكري يقوم على مبادئ الماركسية حسب فهم الأب لها، بما يجعلهم يتبنون جميعا شعار “كل السلطة للشعب” ويهتفون به كل يوم.

وهذه الأسرة الغريبة لا يتناول أفرادها سوى الطعام الصحي الطبيعي، ويرفضون تماما المأكولات السريعة التي يدمن عليها الشباب الأميركيون، كما لا يعرفون شيئا عن الأفلام والمسلسلات الشائعة التي يشاهدها أقرانهم، ويقضون الليل في الغابة، يشعلون النار ويتحلّقون حولها.

يبدو الأطفال سعداء بهذا النمط من الحياة، رافضين حياة المدينة والاستهلاك البورجوازي ومجتمع أميركا المحكومة بالاحتكارات، لكنهم بدأوا يتساءلون متى تعود إليهم أمهم؟

ولا يبدو الأب سعيدا بهذا التساؤل الملح الذي يشي بضعف لا يريده لأبنائه، فهو يدربهم على القوة والتحكم في مشاعرهم، وعندما تتوفر له الفرصة لإجراء مكالمة هاتفية مع شقيقته يعلم منها أن زوجته قد انتحرت، وأن جنازتها ستقام في نيومكسيكو بعد يومين أو ثلاثة.

ويصبح حادث موت الأم على هذا النحو مفجرا لأزمة عنيفة بين الابن الأصغر ووالده، فالولد يتهم أباه بالتسبب في مرض الأم ومن ثم وفاتها، هذا التوتر بين الأب والابن سيعود ليتخذ شكلا أشد فيما بعد، لكنه سيصبح أيضا أكثر نقاط الفيلم ضعفا.

بيل كاش يريد حضور الجنازة مع أولاده، لكن والد الزوجة المتوفية يهدده بإبلاغ الشرطة للقبض عليه إذا تجرأ وحضر، فهو يحمله مسؤولية المصير المأساوي الذي انتهت إليه ابنته، بسبب نمط الحياة المتطرف الذي عاشته معه، لكننا سرعان ما نعرف أن الزوجة كانت تتفق تماما مع زوجها في التمرد على الحياة التقليدية، وأنها اعتنقت البوذية وأوصت بحرق جثمانها بعد وفاتها، والآن يتعين على بيل أن يذهب مع أبنائه الستة لإنقاذ جثمان ليزلي من الدفن (على الطريقة المسيحية) وحرقه كما أوصت، وبدلا من البكاء والنحيب يجب أن يرقص الجميع ويغنوا، حسب تعاليم الأب.

من هذه اللحظة يصبح الفيلم أحد أفلام الطريق، فالأب يضع أبناءه داخل حافلة ضخمة تقطع الطرق عبر الولايات المختلفة أملا في الوصول إلى نيومكسيكو وإفساد خطة الجد في إقامة جنازة “محترمة” للراحلة، وخلال الرحلة يقوم الأولاد بالتعاون مع الأب بالسطو على “سوبرماركت” وسرقة المأكولات العضوية، في عملية يطلقون عليها “عملية تحرير الطعام” على طريقة حرب العصابات.

وبدلا من الاحتفال في الغابة بأعياد الكريسماس يحتفلون بعيد ميلاد “نعوم شومسكي” وينشدون له أغنية خاصة يحفظونها عن ظهر قلب.

وفي أحد أهم مشاهد الفيلم يتوقف الأب وأبناؤه لزيارة “هاربر” شقيقة بيل، التي تعترض على طريقته في تربية أبنائه وتتهمه بتشويههم نفسيا وحرمانهم من التعليم الحقيقي في المدارس، ويصل السجال بينه وبينها إلى أن يجري اختبارا ليثبت جهل أبنائه بمعرفة مبادئ الدستور الأميركي، بينما تقوم ابنته الصغيرة الملقنة جيدا بترديد أسطر المادة الأولى من الدستور بطلاقة تامة!

ما الذي يحدث؟ هل بيل مجرد أب ثائر؟ هل يجسد اختياره تعليم أبنائه على هذا النحو نوعا من التسلط والقمع، أم أن منهجه هو الأفضل والأقوى؟ اعتبارا من مشهد اقتحام الأسرة للكنيسة، يتخذ الفيلم منحى يسحب كثيرا من فكرته الأساسية ويدخله في الكثير من التناقضات، والسبب يرجع إلى السيناريو الذي يحاول التوفيق بين النقيضين دون أي نجاح أو إقناع.
مفارقات وتناقضات

كما هو متوقع يقتحم بيل وأبناؤه الكنيسة أثناء إقامة القداس على روح المرحومة، ثم يلقي بيل كلمة يعلن من خلالها أن زوجته كانت قد تحولت إلى البوذية، وأنها أوصت بحرق جثمانها، ويتهم والدها جاك بمخالفة رغبة ابنته بإصراره على دفنها طبقا للتقاليد المسيحية معبرا عن اشمئزازه من دفن زوجته تحت “ملعب للتنس”، وحبسها داخل صندوق خشبي صامت. ويقع الصدام بين الرجلين وتمتد المناقشة إلى منزل جاك الذي يجد الأطفال أنه أحد تلك المنازل البورجوازية التي تعكس الذوق السقيم وإهدار الفراغ في استعراض تافه للمال.

هنا يخرج الجميع مع بيل لقضاء الليلة في الحديقة المحيطة بالمنزل، ولكن التناقض الذي سيعقب ذلك ينشأ عندما يكتشف الأب أن ابنه الأكبر تقدم للالتحاق بالدراسة الجامعية، وتلقى رسائل تفيد بقبوله في جامعة مرموقة، ويكشف الابن أنه قام بذلك بتشجيع من أمه، أي أن الأم لم تكن على وفاق مع الأب في سياسته الخاصة بتنشئة الأولاد، وهو ما يتناقض مع ما سبق أن أكده الفيلم من خلال مشاهد محددة، كما يصطدم الابن الأصغر بوالده متهما إياه بتدمير حياتهم ويلجأ إلى الإقامة بمنزل الجد والجدة ويرفض العودة.

ومع ذلك، يعود الابن الأصغر ويتصالح مع الأب دون مبرر واضح، بل إن الفيلم يعقد مصالحة بين بيل والابن رغم ما بينهما من تناقض واضح، ويجعل بيل نفسه يتغير، فيقوم في النهاية بحلق لحيته وشاربه ليرتدي ملابس عادية، ويبدو طبيعيا بعد أن تزول عن وجهه علامات الصرامة والشدة ويصبح أكثر استعدادا لتقديم التنازلات بعد أن كاد يتسبب بصرامته في مصرع إحدى بناته في حادث مروع أصابها بكسور.

يجمع الفيلم بين الكوميديا والدراما الساخرة، مؤكدا على أهمية الأسرة، لكنه يبتعد عن فكرته الجديدة التي كان يمكن أن تصنع عملا شديد الحيوية يطرح الكثير من التأملات والأفكار، حيث يميل في ثلثه الأخير إلى عقد مصالحات ليوفق بين النقيضين، ويجعل من كانوا يرفضون الحياة التقليدية، يتشبثون بها، ومن يرفضون المأكولات السريعة يتلهفون عليها، ويجعل الابن الأكبر يتهم والده بأنه لم يعلمه شيئا.

لا شك أن الفكرة الأساسية في الفيلم هي إدانة الاكتفاء بالمعرفة النظرية وتجاهل التجربة الحياتية المباشرة: الابن الأكبر يجثو على ركبتيه في مشهد شبه هزلي بعد أن يتبادل أول قبلة له مع فتاة اِلتقاها للمرة الأولى، ليطلب منها أن تتزوجه طبقا لمفهومه للعلاقة بين الرجل والمرأة.

وقبل أن يرحل للالتحاق بها يقول له والده “كن رقيقا مع المرأة وأنت تمارس معها الحب.. احترمها وتعامل معها بما يحفظ كرامتها.. حتى لو لم تكن تحبها”.

من أهم عناصر الفيلم التصوير السينمائي للمصور الفرنسي ستيفان فونتين (مصور فيلمي جاك أوديار “نبي” و”صدأ وعظم”، وفيلم “هي” لبول فيرهوفن).
وتكتسب الصورة هنا رونقها وسحرها من قدرة المصور على الإحاطة بالأماكن المتعددة التي يمر عليها الفيلم: الغابات والجبال والسهول والطرق، مع المزج الجيد بين شريطي الصوت والصورة، مع أغاني الريف الأميركية التي يتم تقطيعها حسب لقطات الحافلة وهي تعبر جسرا، أو تقطع طريقا جبليا، أو تلتحق بنهر الطريق من طريق فرعية، وتتميز لقطات الفيلم عموما بجمالياتها وتأكيدها على فكرة العودة إلى الطبيعة.
عن الأداء

لا شك أن الفيلم من دون الممثل فيغو مورتنسن لم يكن من الممكن أن يتحقق، ويأتي على كل هذا النحو من الجمال الذي ينبع من سحر أداء الممثل العبقري الذي يتقمص حد الثمالة دورا يجعله قريب الشبه بالمسيح، وهو مزيج من المخلص، صاحب الرسالة، الداعية السياسي، المتمرد، الثائر على المجتمع الاستهلاكي، الرافض للثقافة السائدة، إنه حصيلة الجمع بين ماركس وشومسكي وروبسبير.

وأدى مورتنسن الدور بالكثير من الحيوية والقدرة على الانتقال من حالة إلى أخرى، من أداء يفجر الكوميديا إلى أداء آخر ينتج التراجيديا، ولكن بشكل محكم ودون مغالاة أو خروج عن الطابع العام الصارم لشخصية بيل كاش، وقد دعمته في الأداء مجموعة الممثلين الأطفال والشباب الذين أدوا أدوار أبنائه الستة، بالكثير من البراءة والعفوية والصدق.

يذكرنا الفيلم في بعض جوانبه بفيلم “جمعية الشعراء الموتى” باتجاه أبطاله إلى الخروج من الواقع والعيش في الخيال، مع الفارق الكبير بين الفيلمين، فليس هذا فيلما عن الشعر والحياة، بل عن الموت والحياة، أو عن التناقض الذي ينتج تلقائيا من الرغبة في خلق صورة أخرى للعيش، ربما تحقق للإنسان احتياجاته الأساسية ولو بالسرقة وقتل الحيوانات، أي الاعتداء على الطبيعة، ولكن هل يمكن العيش بمعزل عن العالم بأسره وخلق المدينة الفاضلة!

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى