مرابع السحر والجمال …قصة للكاتب سعد نجاع

خاص (الجسرة)
هنيئا لك أيتها البدوية زواجك هذا المساء، وهنيئا لعرائس المرُوُجْ إقتحام المدينة وصخبها.
لم تكن “جهينة” سوى فتاة فاقت الجمال حين بدأ حُسنها من خصلات شعرها الذهبي ممتدا على طول جسدها الرشيق منتهيا عند أصابع أرجلها المصبوغة بالحنّاء، …لم تحلم يوما بزواجها من ثري، وأن تسكن مدينة بحجم ولاية، هذه المدينة التي يداعب الثلج أرصفتها وحواف أشجارها طول الشتاء، وهي التي لم تر نصاعة البياض غير في قماش الأموات،…تحلم كأيّة فتاة لكنها تتحكم في أحلامها التي لا تبلغ عادة ثُلُثَ السماء وتعود متساقطة عليها كأوراق الخريف، فتندب حظها تارة وتبكي على جمالها الضائع في فيافي الريف والقرى تارة أخرى، فتُمسك بقبضة من حديد آخر شيء كانت تحمله ثم ترمي به على مد البصر، وكأنها تنادي هذا الشاب الثري الذي بدوره لم يحلم يوما بالزواج من قروية تُصفف شعرها على جزء صغير من مرآة مكسورة تعود لزواج والدتها، لكن الصداقة التي كانت تجمعه مع أخيها “عباس” لم تُفقده تلك الثقة في الملامح الجميلة التي كان يخبئها “عباس” حين أخبره بأن لديهم فتاة ولهم النيّة الصالحة في تزويجها من رجل يُقدرها ويحترمها ويمنحها السعادة والهناء ولا شيء غير ذلك، ساعتها كان “رمزي” يجول ببصره في الأفق ثم ينظر ل”عباس” وهو يرسم جهينة بإضافة القليل من التفاصيل فيحصل على فتاة جميلة جدا في وجه “عباس” فيربت على كتفه وهو يقول :
هذا المساء سأحضر أمي وأرى رأيها في أختك، فاندهش عباس لقرار صديقه الذي لم يمنحه حتى التفكير وإخبار أخته بما يجري…
“”جهينة” فتاة تنظف ساحة البيت وتطعم الأغنام وتحلب البقرة، وتقوم بشؤون البيت وتقف تتأمل المراعي وتنبش ما تبقّى من طفيليات الشجر، فيقف الريف بما يحتويه يقتسم نصيبه من الجَمَال مع “جهينة” فيمنحها للشعر فدادين الأقحوان وللعينين اخضرار الزرع،وللأنف طول الغصن، وللخدّين ساحة البيت التي تعكس ضوء القمر،ولشفتيها لون شقائق النعمان ولرقبتها ساقية الماء العذب الزلال ، ولساقيها متانة الجذع ،ولطولها النخلة المتواجدة على الحدود مع باقي الأراضي، فتصبح حارسة نفسها من ذئب الليل ،وسيدة الأرض والعرض من أي دخيل كان…فتتناثر شظايا الأنوثة في هاته المرابع ويصبح الريف شبه أنثى تقف عارية تستهوي الهواء النقي حين يلامس مفاصلها،… فتبتسم السماء وتفتح الطبيعة أحضانها ويتهرب الليل من خيباته وأحلامه ليستفيق على حقيقة طالما ظنّها خرافة…فيجد الريف قد تقاسم الجمال مع “جهينة” ووقّع معاهدة الحب الأبدية التي لا تتيح لليل وقتاً ،غير أضواء تضمحل بوجود “جهينة”.
آن لفتاة المروج أن تأخذ نصيبها من الترف ودُوُرِ السينما والمسرح، كما أخذته من وافر جمالها،…وأن تنتعل الكعب العالي وتُساير الموضة وتُودِّع المرُوُج الخضراء، وساقية الغسيل المجاورة للمنزل وأشجار التّينِ أين كانت تُكوى الملابس على أشعة الشمس الحارقة وتنال الأشجار نصيبها من الماء الذي لم تتمكن يدا جهينة الناعمتين من عَصْرِه.
آن لها أن تترك تجمعات النسوة عند الساقية وحديثهن عن مواعيد ولادة الأبقار والأغنام ،وأمطار السنة ،ومحصول آخر العام والتويزة وتجمعات عيد الفطر في ساحات الريف وماتَمُنُّهُ هاته الساحات من كرم أهل القرية… كل هاته المحطات كانت راسخة في ذاكرة “جهينة” ،ومغادرتها يُعد من المستحيلات وهي التي لم تكن تعلم بعد بقدوم ذلك الشاب الوسيم “رمزي” ابن المدينة وابن الأوراس الأشم.
في ذلك المساء بالذات يجلس والدا “جهينة” عند عتبة البيت، تتوقف سيارة من الطراز الرفيع، ينزل “عباس” وصديقه “رمزي” ثم تلتحق بهم والدة رمزي، …تفاجأت والدة جهينة للوهلة الأولى لكن تقديم ابنها “عباس” للضيوف كان كافيا لكسر حاجز الدهشة… فبعدما تكلم “عباس” مع أمّه على “رمزي” وافقت مبدئيا، لكن القرار الأخير يعود لوالده ، ولم يكن هناك مانع حين طلب رؤيتها بعد أن كان معها والدها ، فأزيح ذلك الستار الذي يقف كوشاح على عتبة الباب ليرى رمزي ” عروسه ،وحين رآها لم يعد هناك للحديث بقية كما عهده في مراسم الخطوبة مع أترابه فبقية الحديث أخذته نظرات جهينة ووجهها المشع حياءً ،كانت يده تندفع ليشد على راحتها أكثر ويَمرق لهفة اللقاء من أصابعها الدافئة المزركشة بالحنّاء إلى روحه النقية، فهو لا يأمن على فتيات المدينة كما يأمن على هاته القطعة المدفونة في آخر جزء من العالم وكأنه يعرفها منذ عصور ولم يعرف قبلها بنت أنثى، لم ينطق ببنت شفة وراح يستأذن من والدها الخروج، وبابتسامة عريضة تَبِعَتْه وهو يزيح الستار عن آخر أمنية كانت تتمناها ليحققها لها وبشيء من الدهشة والعجب رنّ في روحه هاتف الفرح والسرور وسمع ضحكات جهينة التي لا تخفيها الملامح الجميلة وبلغ رضا الطرفين الأفق ولم يبق غير مراسم الزواج،…
…لم تكن عاصمة الأوراس سوى مدينة النبوءة التي حققت أمنية جهينة، وهي المدينة التي تسرق الجمال من ربوع الوطن فتمنحه من بياض ثلجها دفء الشتاء ومن ربيعها رائحة الأقحوان ومن خريفها الأرصفة البهيّة بأوراق الشجر ومن صيفها روائع تيمڨاد الأثرية، ولم تكن “جهينة ” تحلم قط بزيارة هذه المدينة وهي من تربّت في بيت ترابي تُزاحمهم فيه خيوط العنكبوت، لكن زيارة “رمزي”، هذا الأخير الذي رأت فيه ملامح الشاب الصالح ما هي إلا بداية لحياتها الجديدة وهي تستقبل الربيع بغبطة وسرور بعد أن وافق رمزي الزواج بها وحدّد تاريخ الزفاف والذي لم يبق من حلوله غير أيام معدودات…
تجلس “جهينة ” في زاوية المطبخ وهي تسأل والدتها بصوت متهدج عن الزفاف وما تبقى لها من لوازم الزفاف، فتجيبها بنبرة الأمّ التي تودّع أغلى ما لديها إلى بيت آخر وأُناس آخرين وبيئة أخرى غير تلك التي تراقصت جهينة في باحاتها، فتحسسها بلوعة هذا الفراق المستقطع وما تحمله الأيام من شوق وحنين للأهل والأرض ،فتعانقها بشدّة ويمتزج الفرح بالحزن ويُخيم صمت رهيب تنقطع فيه الأنفاس سوى من شهقات “جهينة”وهي تحتضن والدتها، هكذا هي البنت تعتنق موطنين دائما، موطن الأم وموطن الزوج، وهي تلك الفتاة الحسناء التي يلجأ إليها فتيات القرية في كل صغيرة وكبيرة.
آن لوالد العروس أن يأخذ مهر ابنته الذي لا تساوي قيمته نظرة من نظرات “جهينة ” ،وآن للعريس أن يصطحب عروسه، فيقف والدها عند عتبة الباب وهو يضع يده لتمتطي “جهينة ” سيارة الفرح المحفوفة بالورود ومن كل لون… هاهي الآن تخرج على صيحات ممزوجة بين الزغاريد والبكاء في جو مهيب وكأن هاته المرابع السحرية تودع جهينة دون رجعة، وهاهو نسيم الربيع يلتحق بسيارة العروس وترافقه أسراب الطيور مُحلِّقةً على مشارف القرية تُودِّع حسناء الضيعة، بعدما امتزجت دموع الفرح بدموع الفراق.
هنيئا لك أيتها البدوية… وهنيئا للأوراس الأشم بك .
بقلم نجاع سعد
قاص من الجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى