أيام ميلانو … مركز للدراسات العربية في عاصمة «الموضة»

سيد محمود

شهدت مدينة ميلانو الإيطالية أخيراً المؤتمر الدولي الثالث للغة العربية وثقافاتها، الذي نظمته الجامعة الكاثوليكية في المدينة نفسها، بمشاركة باحثين ومبدعين من تسع دول عربية، ومن فرنسا والنمسا وإسبانيا وإيطاليا. وقد تسفر هذه المبادرة عن تأسيس معهد للدراسات العربية والإسلامية في الجامعة ذاتها، الواقعة في قلب المدينة التي تحتضن أكثر من 300 ألف مواطن من أصول عربية. ومن ثم جاءت أهمية هذا المؤتمر، الذي ينعقد للعام الثالث على التوالي بدعم من الجامعة الكاثوليكية ورعاية الباحث المصري وائل فاروق، أستاذ الأدب العربي في الجامعة ذاتها.
وقال فاروق في الجلسة الافتتاحية: «لا توجد مؤسسة علمية أو ثقافية خارج العالم العربي بذلت من مصادرها المادية والمعنوية والعلمية ما تبذله الجامعة الكاثوليكية، لخلق فضاء للثقافة العربية ودعم فرص اللقاء والتعايش في واحدة من كبرى المدن الكوزموبوليتانية في عالم اليوم».
وتحدثت الأستاذة في جامعة بيزا الإيطالية كريستين دانكونا في الجلسة ذاتها لتؤكد المعنى ذاته، انطلاقاً من مشهد اجتماع الفقيه المسلم والكاهن المسيحي والحاخام اليهودي في العصر الذهبي للأندلس لترجمة كتاب من العربية إلى اللاتينية والبحث عن ما يستحق الترجمة من اللاتينية. وشدد الناقد المغربي محمد برادة على أن «المثاقفة ليست محاكاة وتقليداً، وإنما هي انتقاء بوعي تدعمه الذاكرة».
وقدم برادة تحليلاً لفكرة المثاقفة في ضوء مستجدات العصر الرقمي، وانتقل من رصد نماذج التمازج المعرفي إلى ما استجد في فضاء الصراع الأيديولوجي، أو ما سماه «المثاقفة المفروضة»، مشيراً إلى أن التسلط العربي والاستبداد يعطلان سياق «المثاقفة» إلى جانب أخطار افتقاد النهضة العربية لطبقة اجتماعية متماسكة تتحمل مسؤولية الحداثة على النحو الذي عرفته أوروبا، الأمر الذي جعل مشروع النهضة العربية الحديثة يعيش «إجهاضات متتالية». وأشاد الناقد المصري صلاح فضل بمبادرة الجامعة الكاثوليكية التي تحولت إلى تقليد أكاديمي راسخ يؤسس لمعاني التفاعل والحوار والامتزاج، وتناول حالة الأندلس كتجربة تاريخية متميزة استمرت نحو ألف سنة ولا تزال آثارها ممتدة إلى اليوم في مَن عبَر من الموريسكيين إلى شمال أفريقيا.
وأوضح فضل الذي شغل من قبل منصب مدير المعهد المصري في مدريد أن الأندلس ليست فردوساً مفقوداً، بل هي تجربة متحققة تاريخياً، في مسارها بيان لحالات السياسة والحكم وكيف ارتبطت بتحولات السياسة وحالة الامتزاج الحضاري. فالقبائل العربية التي دخلت الأندلس – يقول فضل- اتسمت بالتعدد العرقي وبلغ عدد أفرادها 40 ألف جندي في أقصى تقدير، وأسست حضارة بينما لم يقدم الإسبان في أميركا اللاتينية إلا نماذج «الاقتلاع « حتى أن مؤرخي تلك الحقبة من اليهود -على حد قوله- يسمون فترة حكم العرب للأندلس «الفترة الذهبية». وعبر ثلاثة أيام، رصدت جلسات المؤتمر خبرات وتجسدات ذلك التمازج واللقاء بين الحضارات في تجربة الفرد، مثل إدوارد سعيد ومحمد عبده وغيرهما.
وكان الحديث عن الجسر الحي الذي يصل هذه التجارب، وهو الترجمة من حيث هي موضعة الآخر في سياق لغة الذات وثقافتها، وموضعة الذات في أفق الآخر وعالمه، وتم التعرف إلى الترجمة بوصفها عبوراً في اتجاه الآخر.
وتحدث المشاركون في جلسة تحت عنوان «أخيلة المثاقفة: السرد»، شارك فيها منتصر القفاش وأحمد عبداللطيف وأماني فؤاد، من مصر، وأعقبتها جلسة تحت عنوان «أخيلة المثاقفة: الشعر والبلاغة»، شارك فيها الشاعر الإسباني أنخل غتيندا بورقة تحمل عنوان: «تأثير الشعر العربي في جيل 27 في الشعر الإسباني». وفي جلسة تحت عنوان «المثاقفة: تجارب التراث وآفاق المستقبل»، شاركت كريس تينا دانكونا بورقة تحمل عنوان: «العلم والفلسفة، الجبهة العربية اللاتينية»، وقدم الناقد المصري خيري دومة ورقة تحت عنوان «قصة روبنسون كروزو، البداية المجهولة لترجمة الرواية الأوروبية إلى العربية». وتناولت الإيطالية إيلينا بياجي موضوع «القبض على الجذور، ترجمة التصوف باجتياز لغته»، وكان من أبرز مداخلات المؤتمر. وتحدث عماد عبداللطيف من جامعة الدوحة عما يمكن أن تقدمه البلاغة العربية للثقافة الأوروبية المعاصرة.
وتناولت الشاعرة المصرية صفاء فتحي أطرافاً من سيرتها الذاتية تؤرخ لمعنى التعدد اللغوي الذي عاشته، من خلال لغة العائلة في صعيد مصر ثم فضاء المحكيات في لغة الحياة اليومية القاهرية ثم تجربة العيش والزواج والاستقرار في مدن أوروبية، إلى أن عملت مع جاك دريدا في كتاب عن حادث 11 (أيلول) سبتمبر. واعتبرت فتحي أنها بفضل العمل مع دريدا تحولت من خلفيتها الماركسية التقليدية إلى عالم منفتح وغير مكتمل في الوقت ذاته بحيث أصبحت اليوم تكتب بلغات متعددة خارج السياقات وأصبح قدرها، كما تقول «أن تكون مواطنة كوزموبوليتانية».
وقدم الكاتب العراقي صمويل شمعون، رئيس تحرير مجلة «بانيبال»، شهادة انطلاقاً من سيرته التي بدأها في العمل كبائع متجول في السادسة من العمر، وهوياته المتحدة داخل هويته العراقية كأشوري مسيحي لم ينل قسطاً وافراً من التعليم، لكنه استطاع تعلم الطباعة والقراءة إلى أن مكَّنه شغفه بالسينما من السعي لتكوين معرفة أدبية ونقدية. ولفت شمعون إلى تجربة تأسيس «بانيبال» مع مارغريت أوبانك، ورصد صعوبات واجهها ليساهم بفاعلية في تغيير النظرة الأوروبية للأدب العربي عبر الرهان على نصوص تتسم بأدبيتها قبل كل شيء. وقدمت الكاتبة والمسرحية المصرية نورا أمين قراءة من أحد فصول كتابها «تهجير المؤنث»، تناول تجربتها في الغرب حيث واجهت داخل مقهى دانماركي مواقف تحفل بالعنصرية والتمييز العرقي والجنسي أيضاً. وتوقف الأردني الياس فركوح أمام تجربة نزوح جده من اليونان واستقرار عائلته في الأردن، وكيف أنه اليوم يعيش هوية أردنية مختلطة بتجربة نضالية لأجل قضية عربية إنسانية، إلى جانب هوية دينية مغايرة، لكنها جزء من نسيج حضاري بالغ الخصوصية والتعدد. وشارك كاتب هذا التقرير في جلسة بعنوان «صورة العربي في الإعلام الغربي»، مع مونيكا ماغتوني رئيس التلفزيون الإيطالي، وصمويل شمعون، وفؤاد منصور رئيس تحرير جريدة «الأهرام ابدو» التي تصدر بالفرنسية في القاهرة. وخلالها تم التعرض للصور النمطية التي سعى الإعلام الغربي لتثبيتها عن العرب والمسلمين وهي صور سلبية مرشحة للتنامي في ظل الداعشية وخروج الملايين من المهاجرين من البلاد التي تشهد حروباً أهلية وطائفية.
ورأت ماغتوني أنه لا حل إلا بمزيد من الفهم والاندماج وكسر أسوار العزلة. وعرض شمعون تجربة «بانيبال» وكيف كسرت الصور الاستشراقية عن الأدب العربي، فيما توقفتُ أمام دور الإعلام في عالم ما بعد «الربيع العربي» حيث تعاد شيطنة الغرب بامتياز وأخطار تنامي هذه الفكرة. وخلال أيام المؤتمر نظم احتفال خاص لإطلاق أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية للشاعر عماد فؤاد الذي شارك في أمسية شعرية مع أحمد يماني وصفاء فتحي وإنغيل غينادا، إلى جانب تنظيم سيمنار حول الشعر مع طلاب القسم العربي في الجامعة الكاثوليكية.
وصاحبت المؤتمر أنشطة فنية، منها حفلة موسيقية مع المطربة السورية ميرنا قسيس، ولقاء مع مؤلف الرواية المأخوذ عنها فيلم «ماحي بنبين»، ومعرض صور فوتوغرافية للفنان الراحل عمر الشريف نظمته الأكاديمية المصرية في روما، باعتبار أن الشريف هو الوجه المألوف للتمازج الثقافي الذي تتكون هويته بين شرق وغرب لا يمكن الفصل بينهما. وشارك مشروع «كلمة» للترجمة، التابع لهيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، في المؤتمر، تحت إشراف عبدالله ماجد آل علي، المدير التنفيذي لقطاع دار الكتب بالإنابة، بمعرض لكتب المشروع التي تقرر أن تكون نواة أولى لتأسيس مكتبة القسم العربي في حال تمَّ تأسيسها رسمياً.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى