أسئلة القيم والتأريخ والمناهج في أيام الشارقة المسرحية

الطاهر الطويل

أتاحت الدورة السابعة والعشرون من أيام الشارقة المسرحية التي تختم أعمالها الثلاثاء 28 آذار/ مارس، التداول حول عدد من القضايا التي تهم المسرح العربي، سواء على مستوى الإبداع والفكر والتنظير، أو على مستوى التدريب والممارسة العملية، حيث قدّم عدد من الباحثين والمبدعين المسرحيين العرب مداخلات تتعلق بالمسرح والقيم والتأريخ للمسرح العربي وسؤال التمثيل والتكوين المسرحي وغيرها من المحاور المهمة التي انضافت إلى الرصيد الإبداعي للمهرجان المسرحي لمدينة الشارقة.

المسرح والقيم

في الجلسة الأولى من ندوة «المسرح والقيم» التي ترأسها حميد علاوي (من الجزائر)، قدمت مداخلات لكل من أحمد أمل (من المغرب) محمد مومن (من تونس) مفلح عدوان (من الأردن) عبد الإله عبد القادر (من العراق).
تساءل رئيس الجلسة عمن يصنع منظومة القيم، العقل أم الدين أم النقل؟ وعما إذا كانت تلك المنظومة عالمية، أم ذات خصوصية، ليقول إن التجربة الإنسانية في أغلبها فردية وليست جماعية، موضحا أن الإنسان لا يستفيد من الأخطاء السابقة، وهذا ما تدور حوله أغلب التراجيديات العالمية.
بدأ أحمد أمل مداخلته التي تمحورت حول موضوع «التشكيل الجمالي، بحثا عن قيم جديدة»، بالحديث عن الحاجة إلى المسرح، مشيرا إلى أن الإنسان الأول في صراعه من أجل الحياة والبقاء استعمل العقل للتمييز بين التمييز، وكانت تعبيراته الجمالية المعبرة عن انتصاراته متمثلة في الرقص ثم الحكي والشعر والتمثيل. ومن ثم جاء المسرح كفضاء لتجسيد الصراع مع القوى الخفية. فالدراما هي الصراع الأبدي.
ثم تحدث عن علاقة العرب بالمشاهدة المسرحية منذ مارون النقاش، ملاحظا أن المسرحيين العرب الأوائل كانوا مسيحيين وبعض اليهود، وأن العرب اقتبسوا الكوميديا بدل التراجيديا، لأنه لا محل للصراع لديهم. كما تحدث عن جهود توفيق الحكيم في إيجاد قالب مسرحي عربي.
بعد ذلك، خصص المتحدث جزءا من مداخلته للوعي المسرحي لدى المسرحيين المغاربة منذ ستينيات القرن الماضي، بدءا بمرحلة الإعجاب بالأشكال والمضامين الوجودية والعبثية، مرورا بمرحلة البيانات المسرحية: الاحتفالية والمسرح الثالث بالإضافة إلى بيانات أخرى لم يكتب لها الدوام، وأبرز مساهمة بعض مسرحيات عبد الكريم برشيد والمسكيني الصغير والطيب الصديقي في إعادة تشكيل الوعي بالقيم الإنسانية، واستثمار الفعل المسرحي لمخاطبة الغرب وتجسيد التلاقح الحضاري والتمازج مع الأفكار العالمية. وتحت عنوان «القيم والغيم»، اختار محمد مومن الحديث بنبرة حزينة عن أزمة الإنسان المعاصر، حيث قال إن البشرية تعيش الزمن العابر للإنسانية، إنها ـ برأيه ـ فترة انتقالية لما بعد الإنسانية، حيث سيختفي الإنسان الذي عرفناه منذ آلاف السنين، وستصبح القيم هباء منثورا وستذهب ريحها وتنهار المبادئ التي بنى عليها الإنسان تاريخه في العرض. وطرح في هذا السياق مجموعة من الأسئلة من بينها: هذا هو مآل البشر وقدرهم؟ هل هي النهاية كما يراها المفكرون والمؤرخون؟ هل ما زال للإنسان مكان في هذه العوالم؟ هل ما زال للفنون دور في الدفاع عن إنسانية الإنسان؟ أي مسرح سيكون قادرا على التعبير عن هذه التحولات؟ ليعرب عن أمله في تنظيم المستقبل التكنولوجي والعلمي، مؤكدا على دور الفن في المقاومة. أما مفلح العدوان فاختار الحديث عن المسرح العربي الآن في المجتمع المحافظ، متسائلا: كيف يمكن للمسرح بما يمتلك من تقنيات متقدمة جدا، وبما لديه من خبرات أن يقدم الأفضل إذا كان حوله مستنقع عدنا فيه إلى عصور ما قبل المسرح؟ ليقدم توصيفا لتلك الحالة بوجود محاكمات اجتماعية للفنان المسرحي، وتكفير الأعمال المسرحية بدعوى خدش القيم، وقتل أحد الفنانين أمام قصر العدالة. وبعدما لاحظ وجود فجوة بين المسرحيين والمجتمع، دعا إلى تجسير العلاقة بين المسرحيين والسواد الأعظم من المحافظين، من أجل أن يمارس المسرح دوره في التغيير.
في حين شدد عبد الإله عبد القادر على أهمية أخلاقية البيت المسرحي كركيزة، حيث أبرز ضرورة التمسك بالحرية أساسا للعمل المسرحي من جهة، وبناء القيم من جهة أخرى. وأسهب في الحديث عن أدوار المسرح باعتباره برلمانا ديمقراطيا وفنا نبيلا وقلعة للمقاومة ومحاربة الظلام وتحقيق المتعة.
وخلال الجلسة الثانية من الندوة التي أدارها محمد يوسف علي (من الإمارات)، تدخل محمود نسيم (من مصر) في موضوع «المسرح سياق وعالم من العلامات»، حيث ركز على تجربة سعد الله ونوس، باعتبارها تجربة مركبة لعالم متحول، تقدم تصورات لبناء السلطة وصورة الجماعة وبناء الذات. أما كمال فهمي (من المغرب) فارتأى في مداخلته ضرورة التمييز بين القيم والأخلاق، ليوضح أن المسرح يركز على القيم الأخلاقية، مستشهدا على ذلك ببعض الأعمال المسرحية اليونانية القديمة. وفي ما يخص موقع القيم في المسرح الحديث، أشار إلى وجود ثلاثة اتجاهات، هي المسرح الملحمي الماركسي مع بريخت ومسرح المواقف أو المسرح الوجودي مع سارتر ومسرح العبث مع يونسكو وبيكيت.

مؤرخو المسرح العربي

دعا باحثون عرب إلى إعادة قراءة التاريخ المسرحي العربي وكتابته وفق رؤية نقدية، كما ألحوا على أهمية التوثيق للتجارب المسرحية ومد الجسور بينها، مشددين على دور المؤسسات المختصة في هذا الجانب. جاء ذلك في الندوة الفكرية التي أقيمت في إطار الدورة السابعة والعشرين لأيام الشارقة المسرحية، تحت عنوان «مؤرخو المسرح العربي: أي دور وأي تأثير؟»، بمشاركة محمد المديوني (من تونس) عبيدو باشا (من لبنان) عز الدين بونيت (من المغرب).
أشار مدير الندوة محمد بهجاجي (من المغرب) إلى أن سؤال التأريخ ليس دائما نزوعا نوستالجيا، لكنه لحظة وعي لربط الذات بمحيطها الفكري. ثم جاءت مداخلة محمد المديوني محاولة لمناقشة أسئلة البدايات والاستمرار والقطيعة والريادة في الممارسة المسرحية العربية، حيث حرص المتدخل في بداية حديثه على ضرورة التمييز بين «التأريخ» بما هو إخبار وبين «التاريخ» بوصفه عِلما بكيفية الوقائع وأسبابها وبما هو جماع علوم مساندة كالجغرافيا واللغة والاجتماع الاقتصاد وغيرها. وخلال حديثه عن التوثيق المبكر للمسرح العربي، توقف عند بعض الكتب المعروفة التي أُنجزتْ في هذا المجال ككتاب جاكوب لاندو «دراسات في المسرح والسينما عند العرب»، وكتاب محمد يوسف نجم «المسرحية في الأدب العربي.
ومن منطلق ندرة المدونات والوثائق والمراجع، ألح المتدخل على أهمية التوثيق الذاتي والتدوين للتجارب والتجسير بين الأجيال، موضحا أن العرب يركزون عادة على المسرح كشكل وليس كفكرة، مما لا يسمح بالتدوين والتأريخ، ومضيفا أن من أزمات التأريخ للمسرح العربي وجود من سماهم مقتفي الآثار وهم المقلدون.
وواصل عبيدو الباشا تشخصيه لواقع المسرح العربي، من خلال حديثه عن مجموعة من السلط التي اعتبرها تعوق التوجه الصحيح للتأريخ للمسرح: سلطة دور النشر، سلطة مجموعات معينة، سلطة الوطنيات، علاوة على الاقتصار على زاوية واحدة في الكتابة التأريخية وإغفال باقي الزوايا، وهو ما أطلق عليه المتحدث «النظر بطرف العين»؛ وكذلك ارتباط النقد المسرحي بمن أسماهم «فئران الورق» الذين قد تصير كتاباتهم مراجع يتعود عليها الناس مع مرور الزمان.
كما أشار إلى «خطر» مواقع التواصل الاجتماعي في إشاعة أفكار مغلوطة وفي هيمنة الأغلبية التي تمارس نوعا من القمع على الأقلية، ومن ثم دعا إلى «مَأْسَسَة» كتابة التاريخ، من خلال قيام مؤسسة بوضع مناهج لكتابة التاريخ وتنظيم الطريق الصحيح، لكون التدوين شكلا من أشكال الحماية الذاتية للمسرح من الموت، بحسب تعبيره.
وجاءت مداخلة عز الدين بونيت تحت عنوان «في الحاجة إلى تاريخ للفرجة»، حيث قسمها إلى عتبتين، خصص الأولى للحديث عن أهمية المؤسسة المسرحية في تثبيت المرجعية والذاكرة، مذكرا بأن المسرح نشأ على الدوام في الثقافات العريقة باعتباره مؤسسة تقف وراءها إرادة سياسية واقتصادية. واستطرد قائلا إن خلود شكسبير وراسين وموليير وغيرهم لا يعود فقط إلى إبداعاتهم المسرحية، ولكنه ناتج أيضا عن مفعول المؤسسة. أما تاريخنا المسرحي فهو ـ كما قال المتدخل ـ بلا سند مؤسسي.

مناهج أكاديميات المسرح

وفي إطار البرنامج الثقافي التأمت أيضا ندوة فكرية حول موضوع: «هل تطورت مناهج أكاديميات المسرح العربية؟» بإدارة عبد الناصر خلاف (من الجزائر)، ومشاركة: حسن عطية (من مصر)، وراشد عيسى (من فلسطين)، وإبراهيم نوال (من الجزائر)، وعصام اليوسفي (من المغرب).
ارتأى حسن عطية تخصيص مداخلته للتكوين الأكاديمي للمسرح في جمهورية مصر العربية، حيث أشار إلى أن هذه التجربة تعود إلى بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث أنشئ «المعهد العالي لفن التمثيل» واستمر حتى عام 1944، ثم أعيد افتتاحه بقرار حكومي تحت اسم المعهد الفنون المسرحية، وتخرجت منه أول دفعة عام 1947 وكان من بينها ـ خصوصا ـ حمدي غيث ونبيل الألفي وعبد الرحيم الزرقاني.
وتحدث عن جهود زكي طليمات في هذه التجربة التأسيسية، حيث استمد مرجعيات التدريس الفني من المناهج الكلاسيكية الفرنسية وأفكار ستانيسلافسكي. وأضاف أنه عند إنشاء وزارة الثقافة في مصر أواخر الخمسينيات تم إحداث قسم الديكور والملابس وقسم النقد وأدب المسرح إلى قسم التمثيل في المعهد المذكور، ومن ثم ينصب الاهتمام على إيجاد حلقة وصل ناظمة بين الأقسام الثلاثة لتحقيق فائدة عظيمة في تكوين الطلبة، ولتجسيد أهمية المسرح في تنمية الوعي وتطوير التجارب الفردية لديهم.
أما الإعلامي والناقد المسرحي الفلسطيني راشد عيسى فخصص مداخلته للحديث عن تجربة يعرفها عن كثب وتتعلق بالتكوين المسرحي في سوريا، مشيرا إلى أنه في سنة 1977 أنشئ معهد التمثيل، تحت وصاية وزارة الثقافة. وأفاد بأن هذه المؤسسة صارت رافدا الأفلام التلفزيونية وأفلام الكارتون، من منطلق أن التلفزيون يوفر النجومية والعائد المادي. ومن ثم، فرض التلفزيون نفسه على المسرح، ولاسيما أمام صعوبة سوق العمل في المجال المسرحي وضعف المناهج المتبعة في التكوين.
كما تحدث عن مشكلة غياب فضاءات التقاء الممثلين وعدم ترخيص السلطات لإقامة مسرح الشارع. ليتساءل: هل يصلح منهج أوغستو بوال صاحب «مسرح المقهورين» في سوريا؟ وانتهى إلى القول إن المسرح يعيش تراجعا ملحوظا، وربما سر صمود المعاهد المسرحية وأقسام المسرح في الكليات كونها معبرا لفنون أخرى غير المسرح، وفي مقدمتها التلفزيون.
إبراهيم نوال من الجزائر ألح في مداخلته على ضرورة إدخال التعليم والتكوين الفني في دائرة الانشغال والاهتمام الفعلي، من أجل إحداث نهضة ثقافة علمية في فنون العرض، كما دعا الباحثين والمبدعين المسرحيين إلى مواكبة التطورات السريعة في مجال التعليم الفني الأكاديمي والمهني من أجل المضي قدما والوصول إلى دور خلاق للتعليم الفني المعاصر، لتجاوز التدريس التقليدي، وفتح الباب واسعا للحداثة والتوعية، وشدد على أهمية وجود إستراتيجية للنهوض بتعليم الفنون المسرحية، عمادها جعل الطالب محور السياسة التعليمية الفنية، وتعميق الخبرة والمعرفة لدى أساتذة التعليم الفني، وربط البرامج والاستراتجيات الجديدة بالنظريات الحديثة في التربية والتعليم والعلوم والتكنولوجيا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى