من ‘شنو قرارك’ إلى ‘شنقرارا’ تبدع راضية الشهايبي روايتها الأولى

هيام الفرشيشي

“شنقرارا” رواية للكاتبة التونسية راضية الشهايبي صدرت أخيرا عن إحدى شركات “مجموعة كلمات” بالإمارات، في حجم متوسط، في 205 من الصفحات، أما لوحة الغلاف فهي لديانا شما، وهي تحيل إلى منفذ صدئ يطل على الخارج أو عن الرؤية من خلال ذاكرة متهرئة.

و”شنقرارا” هي الإصدار الروائي الأول لراضية الشهايبي التي عرفناها شاعرة في أكثر من ديوان: “ما تسرب من صمتي”، “المسار الرقمي للروح”، و”ديوان القهوة”. وهي نشطة ثقافية، فقد أشرفت على تظاهرات شعرية منها 24 ساعة شعر، وأشرفت على أكثر من صالون ثقافي، وتشرف على “ملتقى قصيدة الومضة”.

قام بتقديم الرواية الروائي والجامعي محمود طرشونة، واعتبر أن هذه الرواية هي رواية الأحجية، وتسرب الرموز الشعرية الى لغة الرواية، وتعدد السجلات اللغوية بتعدد شخصيات الرواية.

اختارت راضية الشهايبي لروايتها شخصية إشكالية يمكن وصفها بالشخصية المركبة المعقدة ذات أبعاد سيكولوجية لا سوية، لا يمكن توقع ردود أفعالها، أو الطريقة التي سترد بها لأنها لن تكون عادية تجانب التصرف الواقعي العادي. شخصية تبدو معتوهة يغويها البرزخ الصوفي كما يغويها المنزل المهجور الخرب، تعيش على غرار المتصوفين، تطرب للعراء وتخبئ أسرارها في كنش قديم متسخ لا يفارقها. شخصية لا نعرف عنها الكثير ولكنها تريد أن تتحول قصصها إلى رواية، فتعرض نفسها على أنماط من أشخاص لم يجربوا هذا النمط القصصي، فينقطعون عن الكتابة ويتلفون ما كتبوا.

وتقريبا غاب الحوار أو صوت الشخصية الخارجي الذي يكشف عن عوالمها باستثناء بعض المفردات المتكررة، أو عبارات مبهمة غير مفهومة، حيث غابت الوظيفة الفنية للحوار، وغابت اللغة في تواصلها مع الآخرين. ولكن لعب السرد دوره في الكشف عن الشخصية من الداخل ومن الخارج والتوغل في عوالمها وخاصة في الجزء الأول من الرواية.

وقد تجاوز السرد الوعي الفكري للشخصية التي تحاول الارتقاء إلى عوالم عليا عبر الكتابة ولكن تخذلها عيوب الشخصيات التي تكتب، ووقع القارئ في حيرة إن كانت الرواية تتماهى مع شخصية شنقرارا وتنفصل عنها حين تتلبس بشخصيات تعاني من العطب، وإن كانت شنقرارا تنتمي إلى طينة الدراويش المتصوفة، إن كانت تلك الشخصيات محض خيال اقترفها ذهنها لتكتب أفكارها عن واقعها، أم هي شخصيات اعترضتها في الواقع وخذلتها وصدمتها.

“وتنطلق في نفش شعرها والدعاء وصب اللعنات على مصطفى وسميح ورمزي وأنور وفيليب، وعلى حبيبها وعلى الزمن وعلى الشارع وعلى المدينة” ص157.

هؤلاء هم من عرضت عليهم الرواية نفسها ولكنهم لم يستطيعوا الإبحار بين أمواجها فتوقفوا عن الكتابة بعد سرد قصص غير مكتملة، “تهدي نفسها مغامرة للكتاب ويستمر الكتاب في التداول على محاولة ارتكابها ثم يتركونها للمضي إلى تجارب أخرى غير عابئين بها” ص 5. فقد بقيت مجرد أوراق متشبثة بالمكاتب والرفوف المعروضة للغبار، أو داخل الذكريات المغمورة بالظلمة والنسيان في أوراق القاص مصطفى الراعي، وإن سردت عوالم فقد الأب والحبيب الغادر، وزوج الأم القاسي، لكنها ظلت جامدة رغم تأمل القاص في فضاءات شاسعة تاريخية وفنية وطبيعية.

فقد فتح باب في الجدار نفذت منه البطلة إلى التيه، تفتح مغاليق أخرى للرواية بين دفاتر سميح المدوري الأستاذ الجامعي أستاذ الفلسفة المزدوج نفسيا وجنسيا فعبر من خلال عقدته عن انفصام نفسي فتبرأ منها وأهدى كل الكلام للموت.

تتلبس فكرة الرواية بأنور ممتاز يتلقفها ويسرد بعض تفاصيلها وسرعان ما يرميها للمحرقة، ولم تجد الرواية حضنا حتى من خلال فيليب القادم من وراء البحار البحث عن امرأة يحررها من الرخام المتكلس، يرتفع بها إلى عوالم الحرية، ولكن حقيبته نشلت وألقي بأوراقها في مكان مقفر فضاعت تفاصيل الرواية بضياع بدايتها.

إذن “شنقرار” هي الشخصية الرئيسية، تنكشف في الجزء الثاني للرواية، شخصية غريبة لا تشبه غيرها من المجانين وهي تدخل حيا آهلا، وتأوي إلى منزل مهجور، تنظف الأعشاب التي تنمو حوله، وتنام دون أغطية آخر الفجر، فالأغطية تمزقها لتخيط بها ملابس لابنتها أو هكذا تقول، ولا يكشف لنا الحوار الكثير عن هذه الشخصية فهي لا تتكلم إلا قليلا، فقد دأبت على التمتمة أو تجسد حركة السؤال وهي تقول: “شنوا قرارك” تلفظها بطريقة متآكلة في آخرها فتسمع وكأنها شنقرارا، أو بعبارة أخرى تمضغها، وإذا استاءت أو عجزت عن شيء “حرام، ربي لا يحب هذا” ورغم ذلك فقد عرفنا عنها الكثير من خلال حركتها والأبعاد الثلاث: الجسمية والاجتماعية والنفسية.

• البعد الجسدي والملامح والهيئة:

هي امرأة تجاوزت الأربعين ببعض السنوات، تحتفظ بالكثير من بقايا الجمال، متوسطة القامة، شعثاء، على وجهها آثار خدوش، رثة الهيئة مهما حاولنا أن نجعلها تعتني بثيابها ومظهرها، تربط كفها الأيمن بضمادة متوهمة أن بها جرحا، ولا تزيلها أبدا، ولكنها أحيانا توافق على تغييرها حين يشتد بها العفن. تحت إبطها كنش يصعب تبين لونه” ص171.

والبعد المادي يدلل على التمسك بذاكرة رثة بالصدمات والإهمال والغدر ولكنها تحافظ عليها كما الدفتر ويلازمها كما تلازم جرحها في كنشها الذي يسرد مقاطع من حكايتها، بوحها، مناجاتها.

• البعد الاجتماعي:

ارتبط بالمنزل الذي عاشت فيه وعادت اليه شنقرارا، وتبعها مراد الروائي، أركانه البالية، صحن الدار، الدهليز، البئر، قطع حبل ملقاة. فتتلقفها عبارات زوج أمها المشلول: مجنونة، فاجرة، هتكت عرضك وكسرت قيدك” ص 161، 162.

أركان خربة من الذاكرة يحتفظ به كنشها، وتكشف عنها أمها حين عثرت عليها آخر الرواية. من جمالها الآسر، إلى تفوقها في الدراسة، وتخرجها وتدريسها للعربية، إلى الصدمة مع الحبيب والهروب والتمرد، ودخول مستشفى الأمراض العقلية، إلى تعذيب أخيها محرز لها وتقييدها بالحبال، إلى تهريبها عبر صديقتها، فالبعد الاجتماعي يبين أن الصدمة أقوى من التفوق الذهني، وسطوة القيم الاجتماعية المشفوعة بالعقاب عند الخروج عن قيم العائلة والمجتمع، وخطورة المجتمع أيضا ومعاقبته لمن يخرج عن نواميسه.

تقول والدتها “تهجرني أشهرا ثم تأتيني آخر الليل، فأطعمها واستغل الفرصة وأدخلها إلى بيت الاستحمام لأنظف لها جسمها وأبكي بحرقة حين أرى آثار ضرب أو اثار جروح على مختلف أطرافها، وأسألها عن الذي فعل ذلك ولكنها لا ترد” ص190، 191.

• البعد النفسي:

وقد انكشف من خلال لوحة الماضي عبر الشفرات الرمزية التي تحل أقفال عوالمها، الغريبة فقد دقت مدخل مقصورتها بالمسامير وكل مسمار تعلق عليه صورة لكفها، وترسم على الكفوف الكثير من الأشكال، جدار عليه رسالة محترقة، جدار عليه أحجيات وأدعية، جدار حولته إلى مكتبة لكتبها. وكل هذه المؤشرات تشير إلى التأزم والبحث عن الخلاص عن طريق القراءة والأدعية.

• الشخصيات الروائية

تحيط بشنقرار شخصيات معيقة، مثل الأخ وزوج الأم والام، لم تفهم عوالمها وعاملتها بقسوة مشوبة بالعاطفة، وهي شخصيات مسطحة، تمثل الماضي الذي يجب أن يحاكم “سأشكوكم للقاضي” ص 161.

• الشخصيات المساعدة:

الروائي مراد الذي اكتشف قصتها من خلال بعض الفقرات من كنشها خلسة حين اقتحمت مكتبه وطلبت منه بحركة من يدها أن يكتب اسمها على الكنش.

وحين جلب اهتمامه حسها الفني وتأثرها بأغاني أم كلثوم وخشوعها عند سماع الآذان. ومن خلال مراد ينكشف البعد الخفي في الشخصية، والاقتناع بأن شنقرار المجنونة هي شخصية أخرى تعرضت إلى صدمة حادة. الشخصية التي أودعتها شنقرار كنشها وسلمته له حين رفضت العودة مع والدتها. فحقق في المخطوط ودلالات الأسهم والرسومات في أوراق الكنش المبقعة بالأوساخ والدموع.

من الشخصيات المساعدة أيضا والدة مراد التي عرفت كيف تخلصها من عادة تمزيق الأغطية بإهدائها ملابس أطفال على أساس أنها ملابس لابنتها التي فقدتها حين ولدت. وسكان الحي من الشخصيات المساعدة أيضا.

من الشخصيات أيضا نجد الروائي والجامعي المرموق أستاذ مراد الذي أودعه رواية شنقرار بعد فك رموزها وكتابة الأجزاء الناقصة فكتب تقديما للرواية فيه الكثير من أسرار شنقرارا باعتباره صاحب المنزل المهجور.

كل هذه الشخصيات ساهمت في كتابة رواية شنقرارا، في أمكنة تطغى عليها آثار الماضي، المعقد، المتعفن، الغريب، الدار، المقصورة، الخرابة، وهناك أمكنة نضجت فيها الرواية وهي المكتب والكمبيوتر.

ينفتح الجزء الثاني من الرواية على ماضي شنقرارا، عبر المنزل القديم المتصدع المتآكل الذي يشير إلى تجارب مريرة.

• الاسترجاع:

عبر ظهور الأم التي استرجعت الحلقة الضائعة، فتحقق التماهي الحكائي بين الشخصية الحقيقية مها والشخصية المضطربة شنقرارا.

• الاستباق

من خلال رغبة شنقرارا في الطيران والرحيل إلى عالم آخر، فقد عادت للمنزل لتأخذ أشياءها القديمة وترحل الى الله.

وقفات استراحة للسارد الذي يعلق على دواخل الشخصية: “هي الآن يتيمة في المدى بلا بدء ولا منتهى، هي الآن تعد نفسها بما لا ترى” ص 149.

تتناول الرواية من خلال شخصية شنقرار العطب الذهني الذي يؤدي إلى خلق ناقص وغير مكتمل، الرواية التي لم تكتمل في الجزء الاول رغم تعدد الكتاب.

كانت الشخصية متشظية، كأحلام الليل متقطعة تركن الصورة الظاهرة وتفرز صورة أخرى تعبر عنها عبر التحويل، لذلك كانت شنقرارا لا تنام ليلا بل تشرع في كتابة قصتها عبر اللاوعي الذي يحتفظ بآثار الصدمات.

فكرة التشظي لبست أقنعة شخصيات ملائمة لها، ثم في الفصل الثاني اختار السارد من خلال الشخصيات الأحداث والمواقف التي ستسهم في كتابة رواية مكتملة بعد تأويل الفراغ والرسوم والأسهم ومعرفة تفاصيل حكايتها من خلال أمها ومنصور ومراد الذي تابعها الى حيث الدار القديمة.

الفصل الأول من الرواية طغى عليه السرد والخطاب الباطني وصوت الراوي والفصل الثاني يكشف الحوار بين شخصيات الرواية، مراد، أمه، أم شنقرارا، الروائي منصور عن خبايا شخصية شنقرارا وفك الأحجية، والتمكن من قراءة الوثائق والمخطوطات وتأويلها ومعرفة الكثير من التـفاصيل من خارج المخطوط على خلق الذات المعطبة لروايتها، فهي الفكر الواعي القادر على لملمة الأشياء المتشظية والبحث عن الكامن والمتخفي وإبرازه.

• الخيال:

في الرواية الكثير من الصور المبتكرة وخاصة حين يغطي الرخام المرأة وتتحول إلى تمثال حجري في قاعة سيزيف.

المعنى يتسم بالعمق فالإبداع الذي يحقق الوجود لا يقف بصاحبه في طريق مسدود

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى