الفن التشكيلي مهمش والرسامون المصريون بائسون
محمدعبد الهادي
الفنان التشكيلي “شفاف” كالزجاج، وتكشف فرشاته عن مكنون شخصيته، فهو مع كل “ضربة ريشة”، وكل لون يمزجه، يترك جزءا من روحه. خلال الشهور الأخيرة شهدت مصر التي سبق أن أنجبت فناني النحت الكبار -مثل محمود مختار وجمال السجيني وآدم حنين وصلاح عبدالكريم- ظاهرة انتشار التماثيل الرديئة بالميادين، ما أثار جدلاً واسعًا، حيث تم وصف تلك التماثيل بالمسوخ، بل وصل الأمر إلى اتهام البعض صانعي تلك التماثيل الرديئة بأنهم يقودون حملة مُنظمة لتشويه صورة مصر، وبات السؤال المُلّح هو: ماذا حدث للفن التشكيلي في مصر؟
والحقيقة أن التشكيليين المصريين يعيشون حاليًا عدة أزمات؛ بدءًا من العزوف الجماهيري عن معارض أعمالهم، مرورًا بارتفاع تكلفة صناعة الفن التي تعتمد على خامات مستوردة من الخارج، وليس انتهاءً بالأوضاع الاقتصادية والمادية الصعبة التي قللت حجم الراغبين من الناس في اقتناء اللوحات.
فن نمطي
يقول الفنان التشكيلي محمد عبلة إن هموم أبناء مهنته ليست قاصرة عليهم وحدهم؛ إذ يعاني من هذه الهموم ( مثل زيادة التضخم وارتفاع الأسعار) المصريون جميعًا، ما يجعلهم عاجزين عن توفير متطلبات المعيشة، وفي الوقت ذاته تسويق الأعمال، فاقتناء الفن بات أمرًا كماليّا، مرتبطًا بالقدرة المالية. ويشير لـ”العرب”، إلى أن قلة أعداد التشكيليين كانت سببًا في انخفاض دخولهم من نقابتهم بعد تقاعدهم، كما أن ثلث الأعضاء لا يدفعون الاشتراكات، ومن ثم لا يتبقى إلا أربعة آلاف فنان هم الذين يسددون، ليظل العائد الذي تتحصل عليه النقابة ضعيفًا، ولا يسهم في ترقية أوضاع المهنة ماليّا، أو حتى إعالة أبنائها.
ووفقًا لنقابة الفنانين التشكيليين فإن إجمالي عدد أعضائها لا يتجاور 6 آلاف عضو، بعضهم لم يسدد الاشتراكات لمدة تصل إلى نحو 20 سنة، وهؤلاء لم يتم فصلهم، رغم أن لائحة النقابة تقضي باستبعاد من لم يسدد لمدة عام بعد إخطاره ثلاث مرات، كما عجزت النقابة منذ تأسيسها عن تحصيل نسبة 2 بالمئة من حصيلة مبيعات الفنانين عن أعمالهم وفقا للائحتها. ورغم ذلك ما زال الفنانون يواصلون العمل وافتتاح المعارض لأنه لا يمكنهم القيام بعمل آخر سوى الاستمرار في الإنتاج، والمتميزون في الفن التشكيلي عددهم قليل، شأنهم شأن المبدعين في شتى المجالات الأخرى.
وبعيدًا عن المشكلات المادية يعاني الفن التشكيلي في مصر هذه الأيام حالةً من “النمطية”، حيث تتشابه الكثير من الرسومات والمجسمات والتقنيات، ما يصيب الجمهور المعتاد على زيارة المعارض بالملل، وهناك عدد كبير من الفنانين يستوحون من الطبيعة نفس الفكرة المجردة من الأحاسيس، بحجة أنهم ينتمون إلى المدرسة الواقعية. لكن حمدي أبوالمعاطي، نقيب الفنانين التشكيليين، يؤكد لـ”العرب”، أن هذه الأعمال الفنية “المتشابهة” هي من نتاج الهواة غير المتخصصين، الذين ينقلون الطبيعة كما هي، بينما الفنانون التشكيليون المتخصصون في مصر يتبعون مدارس متباينة، من بينها التجريبية والسريالية.
تجاهل الدولة
يشكو تشكيليون كثيرون من التسويق، خصوصًا من المقيمين خارج القاهرة، علاوة على منح الأولوية في إقامة المعارض لخريجي الكليات المتخصصة في الفنون، ووجود المجاملات و”الواسطة” و”الشللية” في اختيار الأسماء المشاركة، رغم أن الفن -وفقًا لوجهة نظرهم- يقوم على الموهبة والذوق في المقام الأول، وليس على الدراسة الأكاديمية.
ويوضح أبوالمعاطي، لـ”العرب”، أن كل خريجي الكليات الفنية المتخصصة، كالفنون الجميلة والتربية النوعية والفنية، يحصلون على تصاريح مزاولة مهنة الفن التشكيلي من النقابة، ولهم الأولوية في الحصول على الفرص في دور العرض الرسمية، التي تريد بطبيعة الحال أن تعرض فنا أكثر تخصصا وبمستوى جيد، أما خريجو الكليات الأخرى من الموهوبين فيعرضون أعمالهم في دور العرض الخاصة.
وبدورها لا تستضيف المعارض الخاصة (الغاليرات) إلا المعروفين في الفن التشكيلي الذين تستطيع هي تسويق أعمالهم، وذلك حتى تغطي تكاليفها، لذلك فإنه من المفترض أن تقوم المعارض التابعة للدولة بتبني الأسماء الشابة. ونادرًا ما تتحدث وسائل الإعلام المصرية عن الفن التشكيلي وهمومه، أو تستضيف فنانًا تشكيليّا، إلا في فترة انتخابات النقابة.
ويشير أبوالمعاطي إلى أن الإعلام غير مهتم أصلًا بقضايا الفن التشكيلي، فالمساحات الخاصة بالحديث عن المعارض تقلصت للغاية في الصحافة المطبوعة، ولا يتم عرض برامج حولها في القنوات التلفزية. التشكيليون يرجعون الفجوة بين المعارض والجمهور إلى التغيرات التكنولوجية، والتحول إلى النظام الرقمي، والنقل عن الغرب دون مراعاة للقيم الثقافية والاختلافات الاجتماعية، ما يجعل الأعمال تبدو غير مألوفة.
من جهة أخرى أضحى أغلب هؤلاء الفنانين غير قادرين على الاستمرار في إنتاجهم، في ظل ارتفاع أسعار الخامات والألوان والأقمشة والأخشاب اللازمة للإنتاج، وارتفاع أعباء الحياة عموما، ما دفع الكثيرين منهم إلى التوقف عن الفن، والبحث عن مهن أخرى يقتاتون منها ويعيلون أسرهم. من جانبه يطالب أبوالمعاطي الحكومة بإعادة النظر في الضرائب المفروضة على استيراد الخامات التي يحتاجها الفنانون، بما يساعدهم على مواجهة الأعباء المالية المتزايدة.
قديمًا صوّرت أفلام السينما المصرية الفنان التشكيلي على أنه شخص “بوهيمي”، منكوش الشعر، مهلهل الثياب، ومنقاد إلى شهواته، وكأنه جاء من عالم آخر، لكن بعد ثورة يوليو 1952 تغيرت الحال، وانتشرت المعارض الفنية في مصر بصورة ملحوظة، إذ كانت المعارض تقام في المقاهي والشوارع والأندية وفي كل مكان، وباتت الرموز المشهورة من الفنانين مرآة لأبناء المهنة، وأدرك الجمهور أنه لا يوجد أي اختلاف شكلي بين الفنان وغيره من العاملين بالمهن الأخرى.
وحتى الآن، يعجز قطاع كبير من المصريين عن استيعاب أعمال الفنانين المصريين المنتمين إلى المدرسة السريالية، التي تعتمد على تجسيد الأحلام والأفكار، وكذلك الحال بالنسبة إلى المدرسة التجريديّة. وما يزيد من مشكلة استيعاب الفن التشكيلي غياب النقد الفني، فالنقاد المعروفون لا يتجاوز عددهم الأربعة، وهم لا يستطيعون تغطية جميع الأعمال المطروحة. كما أن مؤسسات الدولة، وفقا للفنانين التشكيليين، تتجاهل الفن التشكيلي، رغم أنه مرآة المجتمع ويرتقي بالجمال والحس.
(الحياة)