المسرحي السويسري ميلو رو يسرد سيرة قارة في لحظة فارقة

أبو بكر العيادي

السويسري ميلو رو مخرج ومدير فرقة وكاتب وصحافي، له حضور هام في الفضاء الجرماني وخارجه، بفضل جرأته أولا رغم صغر سنه نسبيا (40 سنة)، وكذلك بفضل تكوينه العلمي وحذقه عدة لغات كالفرنسية والإنكليزية والإيطالية والروسية، فضلا عن الألمانية.

نشأ في أسرة مثقفة، فجده لأمه دينو لاريز كان وجها بارزا في الحياة الثقافية بسويسرا ما بعد الحرب، عرف بجمعه التراث الشفوي السويسري، وله في هذا المجال ما للأخوين غريم في ألمانيا وشارل بيرو في فرنسا من شهرة، وكان إلى ذلك صديقا لمارتن هايدغر وتوماس مان ويوجين يونسكو.

كان لميلو في حياته، فضلا عن جده، ثلاثة أساتذة كبار: عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو الذي درّسه في باريس في مطلع هذا القرن، فأخذ عنه تحليله العميق للسلوك البشري كخَلق اجتماعي وثقافي، والفنان التشكيلي الألماني جوزيف هاينريش بويس من جماعة فلوكسوس، وقد ورث عنه مفهوم النحت الاجتماعي، وأخيرا برتولد بريخت وإن ظل يساءل تجربته منذ بداياته، سواء في المسرح أو السينما، بحثا عن معنى ما بعد الحداثة في عالم يشهد استشراء العنف.

هذه الثيمة التي شغلته منذ تأسيسه “المعهد العالمي للقتل السياسي”، وهذا، خلافا لما تدل عليه التسمية، هو اسم شركته للإنتاج المسرحي والسينمائي، وكان قد أنشأها لكي يقطع مع مسرح الرصيد الجاهز، ليواجه ركحيا الأحداث الجارية، ويستدعي إلى الخشبة حلقات نزاع كبرى جللت هذه المرحلة، في أوروبا وسواها.

أعاد بناء محاكمة تشاوسيسكو مثلا، ثم محاكمات بوسي ريوت موسكو، قبل أن يحدث رجة قوية حينما عرض في مهرجان أفينيون عام 2013 مسرحية بعنوان “إذاعة الكراهية”، استوحاها من حصص لإذاعة “ألف هضبة” التي كانت تحرض على الهواء مباشرة قبائل الهوتو في رواندا على إبادة قبائل التوتسي.

بعد الجزء الأول، أي “الحرب الأهلية” التي كشف فيها ميلو رو عن التحاق شباب أوروبي مضطرب بالجهاد، في جو يشهد صعود التيارات الراديكالية من كل جانب؛ والجزء الثاني “عصور الظلام” عن حرب البلقان وتمزق الجمهوريات اليوغسلافية، اختار في هذا الجزء الثالث، “إمبراطورية”، أن يقترح العودة إلى أسس الحضارات القديمة المتاخمة للبحر المتوسط، ليصوغ تراجيديا على النمط الإغريقي يصور من خلالها أوروبا كأرض ضيافة وتبادل، مستعملا كالعادة شخصيات قادرة على إنتاج خطاب عن واقع الثيمة المطروحة، وهم هنا أربعة ممثلين من جنسيات مختلفة.

انطلاقا من ذكريات عائلية، مأساوية في الغالب، يروي اليوناني أكيلاس كراسيزيس والرومانية مايا مورغنشتيرن والسوريان رامي مخلوف ورامو علي، مدعمين بالوثائق والصور وأشرطة الفيديو، مسيرة حياتهم المتقلبة والمنفى الذي اختاروه راغبين أو راهبين، مع إمكانية العودة، أو انعدامها، والاضطهاد والقهر والتيه والضياع في المنافي.

في الفضاء الضيق لمطبخ عائلي مترع بالأشياء، يجلس الممثلون الأربعة حول مائدة أو على كنبة، ويتكلمون في حركات مقتصدة، وحضور قار تسعى الكاميرا إلى تقريب انفعالات أصحابه وتعابير وجوههم، ونقلها على شاشة كبيرة تعتلي الخشبة، يفيضون بالحديث ليرووا قصتهم، ما عاشوه وما شاهدوه، باليونانية، والعربية، والكردية، والرومانية.

فتتبدى حكايات معقدة، متشابكة، تغوص في التاريخ المظلم لنزاعات العالم المتوسطي، وتمتح بنيتها من التراجيديا الإغريقية، حيث تتماهى الأدوار الأربعة التي دعي الممثلون إلى أدائها مع حكاياتهم الفردية: فسيرة مايا مورغنشتيرن تحمل صورة الأم ومعاناتها في بلدها الأصلي، وأكيلاس كراسيزيس بطل إغريقي أخطأ عصره، ورامي مخلوف تذكّر رحلته بالأوديسة، فيما رامو علي يلخص معاناة جيل كامل في ظل نظام جائر، وحبس فظيع في تدمر، خلصه منه، يا للمفارقة، تنظيم داعش، ليضرب في الأرض بحثا عن ملاذ.

ومن خلال تلك السير جميعا، ترسم المسرحية صورة عن قارة أوروبية شابت تاريخها عدة أزمات وانفصالات، وتشهد حدودها صدامات وكوارث إنسانية -مثلما يشهد راهنها صعود التيارات الراديكالية- وتوحي بأن مستقبلها يحتاج إلى إعادة نظر، فالمسرحية تنهل من الجذور التاريخية لأوروبا وتهتم بالجهات التي تقع عند مفترق طرق الإمبراطوريات الكبرى في العصر القديم.

في حديثه، يذكر أكيلاس “أوريستيا”، تلك الثلاثية الإغريقية القديمة التي ألفها إسخيلوس، بعد خمسة وعشرين قرنا، ها هو ميلو رو يقترح عبر ثلاثيته المعاصرة، مسرحا لا يتخلى عن مهمته كعامل محفّز للوقت الحاضر وهادٍ للمستقبل، فالمواضيع المطروقة تحتوي على رهانات سياسية ووجودية، وتصدعات عائلية واجتماعية، أي أنها ذاتية وكونية في الوقت نفسه.

وفي هذه المسرحية، كما في سابقاتها، يبدو ميلو رو باحثا عن “واقعية جديدة” على غرار السينمائي النمساوي ميكائيل هانيكه، فقد ابتكر شكلا جديدا من “المسرح التوثيقي”، مسرح يتوق إلى خلق فضاء رمزي، طوباوي، يمكن أن يحلّ فيه العدل.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى