في مُعلقات الشعر الحديث: بحر محمود درويش

منصف الوهايبي

«معلقات الشعر الحديث» أو «المعلقات الحديثة»هو عنوان كتاب لي لا يزال قيد الإعداد، أحاول أن أستصفي فيه القصائد المؤثرة في الشعر العربي منذ خمسينيات القرن الماضي، أي القصائد «الحية» أو «القوية» بعبارة أدق، وأن أقف على أوزانها وإيقاعاتها، وسائر مكونات شعريتها. ودون خوض في المصطلح، وفي «تعليق القصائد» على الحرم الأكبر في مكة؛ أشير إلى أن الأخبار التي استفاضت في أمر هذا التعليق» في «العقد الفريد» و»العمدة» و»المقدمة» ضعيفة، وليست ثبتا من الأثبات؛ فلم يذكرها أي من الكتاب الأقدمين مثل الأزرقي وابن هشام والكلبي وابنه، على عنايتهم البالغة بتاريخ مكة وبشتى التفاصيل والشوارد المتعلقة بالكعبة، بل لا أثر لها في الشعر الجاهلي، وفي القرآن وفي كتب السيرة، ولعل «التعليق» لا يعدو أكثر من حكم نقدي أو حكم قيمة، يتعلق بالقصيدة «النفيسة» أو شعر الفحول، شأنه شأن مصطلح «النص». ومن هذه «المعلقات» «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، وقد أدارها على الرجز، وهي ليست أرجوزة؛ وإنما هي قصيدة، أي أن السياب استطاع حقا أن يُطيحَ بالقسمة القديمة بين «القصيدة» و«الأرجوزة»، بل جعل هذا البحر «الرجز» ولعله الأصل في إيقاع الشعر الأقدم، الأصلَ في الشعر الحر «شعر التفعيلة». ومنها أيضا «جدارية» محمود درويش، وبحرها أو إيقاعها الوزني هو «الكامل» (متفاعلن) الذي جعله محمود على نحو ما جعله أبو تمام «ميدانا لتعمقه وتأمله حتى صار عنده أشد ملاءمة لذلك من سواه من البحور»، ولكنه في هذه «المعلقة» زاوج، وإنْ في مقاطع قليلة بينه وبين «فاعلن» و»فعولن»؛ لأسباب أسوقها في غير هذا المقال.
أما الافتراض الذي نفترضه على بحور الشعر، ونباشر في ضوئه هذه «المعلقات» فأساسه أن البحور استعارية وكنائية؛ ما أخذنا الخطاب بكل مكوناته الإيقاعية والصرفية والنحوية، وما يتفاعل فيها من علائق المشابهة والمجاورة. فقد يتسنى لنا، في سياق قراءة كهذه، أن ننفذ إلى أهم سمات إنشائية الخطاب، وما يتعلق منها بملكة الانتقاء والاستبدال، أو بملكة التركيب والنسيج.
من ذلك أن اضطراب ملكة الانتقاء عند الشاعر ـ أي شاعر ـ يمكن أن ينجم عنه عطب أو فساد في مستوى اللغة الواصفة. أما إذا أصاب الاضطراب ملكة التركيب. فإن قدرة المحافظة على تسلسل الوحدات اللغوية وما يفترض فيها من تأليف أجزائها واتصال بعضها ببعض، هي التي تضعف؛ وقد تنضب جزئيا أو كليا. فلا غرابة أن تنتقض علاقة المماثلة في النمط الأول، فتستحيل الاستعارة، وأن تنتقض علاقة المجاورة في النمط الثاني، فتستحيل الكناية.
صحيح أن هذا إنما جاء في سياق كلام المعاصرين على الحبسة حيث يمكن أن يتدانى أحد الإجراءين الاستعاري والكنائي ويتقلص، وقد يتعطل كليا، وينحي المتكلم «المحبوس» إلى جهة دون أخرى.
أما في منتحى القول العادي أو المألوف، فإن هذين الإجراءين كثيرا ما يتلازمان أو يتحاذيان. وقد يطاول أحدهما الآخر ويجاذبه مكانته، بسبب من تأثير الأنماط الثقافية أو الشخصية. وما بين شد هذا وجذب ذاك، يتكشف الأسلوب المميز والاختيارات اللغوية في فن مثل فن القول، خاصة حيث التفاعل بين هذين العنصرين يَسِمُ كل مستويات النص الصرفية والمعجمية والنحوية والتركيبية، بل العروضية والإيقاعية أيضا التي تتفاعل فيها علاقتا المشابهة والمجاورة. وقد تظهر إحداهما في مستوى بينما تخفى الأخرى. وكل هذا يوفر مادة غنية لدراسة الوزن والإيقاع، ويفتح للبحث آفاقا «جديدة» لم نجد ــ دون ادعاء ــ من عني بها أو التفت إليها.
فهذان العنصران (الوزن والإيقاع) محكومان في «المعلقات» الحديثة، بعلاقتي المشابهة والمجاورة. وإليهما يمكن أن ترجع قوانين مثل التوازن والتساوي والتلازم والتكرار التي تعمل في الخطاب تمكنا ومزامنة. والخطاب إيقاع، والإيقاع خطاب؛ وإذا كان ذلك كذلك، فمن الصعوبة بمكان ألا نقر بـ»كنائيته « أو بـ»استعاريته». على أن إثبات فرضية كهذه، يقتضي فضل بيان وتحقيق، وهو ما لا يتسع له هذا المقال. فالبحر الشعري مجردا، هو واحد، ولكنه من حيث الأداء، متعدد متغير. وربما كان ذلك، بسبب من رجحان أحد هذين القطبين الأساسيين (الاستعاري والكنائي) على قرينة في قصيدة دون أخرى؛ وما يمكن أن يَبتَعِثَه ذلك فيها من أشكال وهيئات إيقاعية يكاد لا يصلها شيء بالوزن مجردا أو مخيلة سماعية. ولعل خير مثال لذلك البحر الكامل «بحر محمود درويش» بامتياز. وقد نرجع ذلك إلى ما يتوفر عليه هذا البحر من فسحة إيقاعية في مضايق العبارة، مقارنة بالطويل (ثمانية وعشرون مقطعا) وبالبسيط (ثمانية وعشرون مقطعا). والكامل أوفى البحور حركات، إذ يضم ثلاثين حركة أو ثلاثين مقطعا. والمقصود بالمقطع كل «حركة قصيرة أو طويلة مُكتَنَفة بصوت أو أكثر من الأصوات الصامتة». وهو أقلها سواكن (اثنا عشر سكونا). وقد نرجع الأمر إلى البنية الحركية بنية التفعيلة «متفاعلن»؛ إذ لها «خاصية الميوعة والتحول» من «متفاعلن» إلى «متفاعلن» بتسكين التاء أي «مستفعلن» (تفعيلة الرجز) أو «متفاعل» بفتح التاء أو بتسكينها، أو «فعلن» بكسر العين أو بتسكينها؛ وهو ما جعل محمود، يستدعي إلى جداريته «فاعلن» و»فعولن» في المقاطع التي انتقل فيها من التكلم إلى الغيبة؛ فضلا عن إمكان الزيادة في عدد مقاطع الكامل وأشكالها في نهاياته، أي تذييل التفعيلة بعبارة العروضيين، وتحويل المقاطع المقفلة إلى مقاطع مديدة؛ إذ تتحول «متفاعلن» إلى «متفاعلان» بفتح التاء أو بتسكينها؛ أو ترفيلها بزيادة مقطع في آخرها، فتتحول «متفاعلن» إلى «متفاعلاتن» بفتح التاء أو بتسكينها، كما هو الشأن في «الجدارية». وهذه الصور من التحول إنما تعزز وجهة النظر القائلة بأن الشعر إيقاع لغوي وأن خصائص بنيته اللغوية من الخصائص المقطعية العامة في مادة اللغة؛ والنسق العروضي إنما ينشأ من كمية تتابع مقاطعه الصوتية. فلعل الظواهر الإيقاعية (الوزنية) التي يتميز بها الكامل شأنه شأن الطويل والبسيط والوافر هي التي أحلت هذه البحور محل الصدارة في شعر كبار الشعراء. ولعل مرد ذلك إلى سببين: أولهما تتابع المقاطع الطويلة والقصيرة في هذه البحور، بطريقة تقربها من النثر؛ وهي من ثمة تتيح للشاعر أن يستخدم مقاطع اللغة في شعره بكثير من اليسر والسهولة. وثانيهما أن المقاطع الثمانية والعشرين أو الثلاثين التي تتركب منها هذه البحور، تفسح للشاعر مجال القول، بطريقة أفضل من النظم في الأبحر القصيرة.
على أن إيماءة المستشرق فايل إلى القرابة بين المقاطع القصيرة والطويلة في هذه البحور ومثيلاتها في النثر، ترجح من رأينا الخاص في أن من الأوزان ما هو كنائي أساسه بنية المجاورة، وما هو «استعاري» أساسه بنية المشابهة. وربما توضح ذلك بصورة أفضل في علاقة البحر بالغرض؛ وهو ما نمسك عنه إلى حين.
أما مكونات هذه الرؤية الإيقاعية، فلا سبيل إلى اكتناهها إلا في ضوء التناسب الإيقاعي؛ وهذا مبحث يمكن أن يشكل رسالة قائمة بذاتها. وقد خلصنا منها إلى ما خلص إليه المعاصرون، ونعني المفارقة العجيبة التي ينطوي عليها الإيقاع كلما حاولنا محاصرته.
إن الزمن عديم الشكل، ولا سبيل إلى أن نجلوَه في مَجْلى الرؤية إلا إذا أضْفيْنا عليه صورة أو هيئة أو قيدناه بشكل؛ أي وقعناه. والمفارقة أن إدراك إيقاع زمني هو نفسه «لازمني»؛ إذ يستلزم الإدراك نظرة متزامنة تجمع بين كل الأجزاء. وهذا لا يتيسر إلا إذا وضعنا أنفسنا في موقع خارج الخطاب. وبعبارة أخرى فإن الزمن يدرك كلما أمكن توقيعه، فيما الإيقاع لا يدرك إلا إذا ألغي الزمن. على أن النص الشعري ليس منذورا لهذه المفارقة، إذ يمكن أن يستخدم زمنا لا شكل له أو زمنا تخيليا يدرك بالبديهة والاستبصار أي دون اعتماد على خبرة سابقة، مثل «زمنية» الموت في هذه المعلقة. وهذا الزمن أقرب ما يكون إلى زمن ديني يقوم على نبوءات وحُدُوس، وهو موقع منغم؛ لأن «الأمر عند الانسان يتعلق دائما بتأنيس الزمن في المتخيل وسحره»؛ بحيث يحمل على أنه ضرب من «مورفولوجية الغيبي».
ولكن دون أن يسوق ذلك إلى القول بأن الإيقاع الشعري تراسل لغوي «للتناغم الكوني الفيثاغوري» أو هو «تعبيرية» تحاكي حرفيا ما تقوله القصيدة أو هو انتظام نغمي أو لحني يحاكي حركة البحر. فمثل هذا الزعم ليس إلا افتراضا من بين افتراضات كثيرة على أسطورة الأصل والمبتدأ، وهي أسطورة تثير أكثر من إشكال، خاصة أنها تؤخذ عند البعض، على أنها حقيقة من حقائق اللغة، ومسلمة من مسلمات الإيقاع أو شكل من أشكال «عبادة الأسلاف» أو خبْط في نفق مظلم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى