شعراء أميركيون شاركوا في حرب فيتنام مرغمين

محمد الحمامصي

في كتابه “أنشودة النابالم.. مقاربة في أشعار الحرب الأمريكية على فيتنام” يؤكد صديق محمد جوهر، رئيس قسم الأدب الإنكليزي في جامعة الإمارات، أن ما كتبه الشعراء الأميركيون المناهضون للحرب على فيتنام، خلال الفترة من 1965 إلى 1975 شهادة دامغة تدين الفظائع التي ارتكبتها القوات الأميركية في فيتنام، ومحاولة أصيلة من هؤلاء الشعراء لإدانة الحرب.
مناهضون للحرب

يكشف محمد جوهر في كتابه -الصادر عن دار صفصافة- عن أن الشعراء المجندين، الذين زج بهم في أتون الحرب الفيتنامية، تغلبوا على العوائق والعقبات الثقافية والإعلامية، إذ قاموا بدحض وتفنيد الأساطير المهيمنة على وعي ووجدان الشعب الأميركي بخصوص الحرب، وعمدوا إلى تسجيل وتوثيق تجاربهم الكاشفة الفاضحة خاصة منها خبرات وتجارب مروا بها عشية أن وضعت الحرب أوزارها.

وعبر فضاء نظري من الدراسات الأدبية والنقدية، تتمحور حول أدب الحرب، عمد محمد جوهر إلى سَبْر غَوْر طائفةٍ كبيرة من النصوص الشعرية التي دبجها ببراعة شعراء مقاتلون شاركوا في الحرب، وشعراء آخرون لم تسنح لهم فرصة الاشتراك في القتال، يمثلون كافة الاتجاهات إزاء الحرب الفيتنامية وما خلفته من أثر مدمر على صعيد الوعي الجمعي الأميركي تمثلَّ في ذاكرةٍ تفيض بالألم وتنوء تحت وطأة الشعور بالذنب والإثم.

يقول الباحث “إن أولئك الشعراء عمدوا في مسعاهم إلى دحض تلك الحرب وإماطة اللثام عن دوافعها غير الإنسانية، وإلى وضع منظومة الأساطير السياسية الإمبريالية الأميركية التي عملت على إشعال أوار الحرب وراحت تسكب الزيت على نارها، موضع التفنيد والمحاكمة. وحتى يواجه الشعراء المناهضون للحرب عملية تزوير التاريخ الرامية للتعمية على الحرب وطمس معالم الفظائع التي اقترفها الجنود الأميركيون خلالها، ودفنها تحت ركام من التناسي الفكري والنسيان الثقافي، عمدوا إلى ابتداع صور وأحاسيس شعرية ذات طاقة هائلة على التنفيس عن المكبوت، وعلى فضح المسكوت عنه والجهر به على الملأ”.

ويكشف محمد جوهر عن حقيقة أن الشعر المناهض للحرب الفيتنامية الأميركية، كرافدٍ أدبي ذي نصوص ونتاج، لم يلقَ غير الإعراض الثقافي، والتجاهل النقدي كونه يمثل نوعًا من الشهادة التي تدين الحرب، وتستنقذ ما هو اجتماعي من براثن ما هو سياسي، وخلال ذلك تمنح الفرد القارئ الواعي حصانة ومناعة ضد كل صور وأشكال الإكراه والقهر غير المشروعة. وحيث إن هذه الأنماط الشعرية تعرضت للرقابة والتضييق إلى حد استبعادها من المقررات المدرسية والجامعية الأميركية لفترة طويلة من الزمن نظرًا إلى تحديها الخطاب الأميركي الرسمي التسلطيّ السائد عن الحرب الفيتنامية، فإنها تستحق دون شك وقفة نقدية أطول والمزيد من التمحيص والتحليل.

وفي هذا السياق يرصد الباحث تجربة الحرب الأميركية الفيتنامية من مختلف الأبعاد متفحصًا تداعيات هذه الحرب المدمرة على المعتدِي والمعتدَى عليه من خلال تحليل دواوين ونصوص شعرية عديدة تجسد الأهوال والمآسي الناجمة عن حرب النابالم والقنابل الحارقة التي أتت على الأخضر واليابس، وأعادت فيتنام إلى عصور ما قبل التاريخ دون تحقيق أي هدف استراتيجي له معنى.
قصائد النابالم

يشير هنا إلى الشاعرة دينيز ليـﭬرتوﭪ التي راقبت الموقف عن قرب وتنقلت عبر أرجاء فيتنام، وشاهدت عن كثب الخراب والدمار اللذين حلا بهذا البلد الزراعي الفقير جراء الحرب. وبالرغم من انتقاد بعض النقاد لها مثل ساندرا غيلبرت، وكاري نيلسون، بدعوى فشلها “في فهم حقيقة الحرب الفيتنامية”، فإن شعر ليفرتوف هو شهادة ناصعة ودامغة على مدى فظاعة تلك الحرب.

في قصيدتها “استراق السمع من فوق سماء جنوب شرقي آسيا”، تجسد ليفرتوف أهوال القصف بقنابل النابالم الحارقة عبر محادثة تخيلية تقصي فيها الرعب جانبًا، وتستخدم خلالها أسلوب الإزاحة والإحلال بغية عرض الطبيعة المشؤومة للتورط الأميركي في الحرب:
“أيها الفوسفور الأبيض

أيها الفوسفور الأبيض اللعين،

أيها الثلج الآلي

أين تتساقط؟

إنني أساقط دونما تمييز فوق الطرقات والأسطح

على أجمات الخيزران، وعلى رؤوس الناس”.

ويضيف “في هذه السطور من القصيدة الآتية من ديوان ‘آثار أقدام‘ تعرض الشاعرة للقارئ صورة مرعبة للأثر المدمر الذي تحدثه قنابل النابالم الحارقة، السلاح الرئيسي للقوات الجوية الأميركية آنذاك، على الطبيعة والبشر في فيتنام. وتستعين الشاعرة في تصويرها ذاك بصور من الطبيعة”.

ويلفت محمد جوهر إلى أن تفشي صورة قنابل النابالم الحارقة في شعر الحرب الفيتنامية على ذلك النحو ليس مرده فقط سعي الشعراء إلى هتك ستر أسطورة الحرب الأميركية وفضح فظائع الحرب وأهوالها، إنما يرجع أيضًا إلى تأثير قنابل النابالم المروع حين استعملها الطيارون الأميركيون في إبادة الشعب الفيتنامي وحرق المزارع والغابات وتدمير الطبيعة.

مثال آخر يتعلق بموضوع النابالم يحلله الباحث من خلال ديوان الشاعر الأميركي ذي الأصول الأفريقية يوسف كومونياكا، والذي يحمل عنواناً فيتنامي المذاق “ديان كاي داو” وتعني بالفيتنامية “إنهم مجانين”. وفي قصيدة بعنوان “أنا وأنتِ في طريقنا للاختفاء”، يجسد الشاعر تجربة الحرب التي خاضها بنفسه في فيتنام.

تدور القصيدة حول الشاعر -وهو الضمير المتكلم في النص- وفتاة فيتنامية نحيلة القوام إلى حد الهشاشة تحترق كأنما هي شعلة متقدة جراء إصابتها بقذيفة نابالم حارقة أطلقتها طائرة أميركية. إنها الفتاة نفسها التي رأيناها في قصيدة ويغل “أنشودة النابالم”؛ يصفها بقوله:
“راحت تحترق كقصاصة ورق محترقة

تحترق كعمود فوسفوري متوهج يتطاير شررًا

في واد خصيب.

طوق من اللهب

يلتف حولها راقصًا عند الغسق

راحت تحترق كأنها كيس من الثلج المجروش

كانت تحترق كزيت فوق صفحة ماء”.

ويرى الباحث أن القصائد التي دبجها الشعراء المناهضون للحرب حول مذبحة “ماي لاي” الشهيرة يمكن أن تكون نموذجًا أصيلاً من نماذج شعر الشهادة/الإدانة الذي يتوخى دحض وتقويض أسطورة الحرب الأميركية بكشفه عن جرائم الحرب التي ارتكبها الجنود الأميركيون في فيتنام. فقصيدة الشاعرة كاي بويل “الموصومون بالذبح” هي استرجاع استبطاني تاريخي للصمت الذي أحاط بمذبحة “ماي لاي”، وهي قرية تعرض أهلها -ومعظمهم من النساء والأطفال الرضع الأبرياء- للقتل والتذبيح على يد القوات الأميركية في عام 1968.

والشاعرة تؤكد في قصيدتها على ما انتهى إليه الناقد هوارد زِنْ الذي رأى أن النظر إلى الحرب من منظور أميركي خالص يعد لبّ وأصل الداء الأميركي في فيتنام.

كما أن استحضار هذه المذبحة يدرجها ضمن تفاصيل مماثلة تختص بإبادة الغابات في فيتنام، وتبوير الأرض الزراعية، وتدمير المحاصيل الغذائية بهذا البلد ملحقة جريمة حرق الغابات بخطيئة إبادة الشعب الفيتنامي.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى