عدنان محسن في شعريَّة الفكرة الموجزة

محمد مظلوم

في مختاراته الشعرية «أكثر من صوت لحنجرة واحدة – دار الجمل» يأنس عدنان محسن الشاعر العراقي المقيم في باريس إلى قصيدة الفكرة الواحدة، التي تكتفي باللقطة من المشهد كله، والفوتوغراف تعويضاً عن الشريط. فقصيدته قصيدة الوحدة التامة، الموغلة في إيجازها، بعيداً من الفهم العربي السيئ الشائع عن خصائص فنّ الهايكو الذي جرى فهمه عربياً فهماً مبتسراً وقاصراً من خلال شكله الخارجي وحجمه وعدد سطوره، لا من خلال شروطه الفنية والمضمونية الداخلية وارتباطه بثقافة وتقليد خاصين، لكن قصيدة عدنان محسن أقرب إلى أشكال فنية أخرى للقصيدة بينها الأبيغراما الرومانسية بتوصيف كولريدج حيث «اكتمالها في إيجازها، والمعمار الفني للقصيدة وجيز في بنائه، وفي الوقت نفسه ساخرٌ في روحه» وتأخذ الأبيغراما في شعر عدنان محسن أحياناَ شكل البوستر، وتستعير دور اليافطة الشعارية المرفوعة في تظاهرات احتجاجية على قسوة العالم من حوله، بينما تتحول في أحيان أخرى إلى مرثية وشاهدة على قبر الماضي، فهي بقدر ما ترثي ذلك الماضي فإنها تخلِّدهُ في هذا الإيجاز المؤثر، كما في قصيدة «عودة افتراضية»: بالقربِ من نهرٍ وِلدتُ/ وبالقربِ من نهرٍ أموتُ/ فارموا رفاتي في أيِّ نهرٍ/ أعرفُ أنَّ النهرَ لا يُخطئُ دربَ المياه/ فلعلَّه يقودُني يوماً/ حيث تركتُ مياهي» وهكذا يتحوَّل الوطن من المعنى السياسي وحتى الجغرافي، إلى المعنى الكوني. بل إننا لا يمكننا في هذا التوصيف لتقنياته الشعرية إغفال استفادته أحياناً من تراث الشعر العربي في حقبة ما سمي اعتباطاً «الفترة المظلمة» حيث تقنيات التلغيز والموضوعات القريبة والصغيرة التي نقلت القصيدة من وصف الموضوعات الكبرى في الشعر العربي كالطبيعة والجيوش والحرب والحب إلى وصف الأشياء اليومية الداخلة في صميم الحياة اليومية: الشمعة أو المخدة أو الملعقة أو المهفَّة…. الخ، وبهذا المعنى فهي لا تعبر عن حياة ملحمية، وفضاءات بعيدة، وإنما عن عالم قريب، بل عن عالم موغل في عاديته حدَّ القاع، لكنه حميم وشخصي إلى أقصى حد.
وبهذا المعنى يعمد صاحب «إلى آخره» إلى الاستفادة من المرجعيات الفنيَّة المتأخِّرة نسبياً في تجارب الشعر الإنساني والعربي والمحلي القريبة منه، ليس في تشكلها الإيقاعي العروضي بالتأكيد، وإنما في ظرافة روحها التي تتخلى عن الجزالة لمصلحة «الهلهلة» بمعنى إنها تميل إلى البساطة والرقة، فإلى جانب الأبيغراما نتذكر ونحن نقرأ قصائده منطق السونيتات في الصنعة، وكثافة الرباعيات ومفارقتها، وظرافة روح شعر «البَنْد» العراقي. وإذا كان «البَنْد» وسيطاً بين شعر الجزالة المعهود في التراث العربي، وبين تلقائية النثر، فإن عموم شعر عدنان محسن يبدو بهذا المعنى أقرب في التوصيف إلى هذا النوع المحلي المغمور، الذي يقترب من النثر، بل يكاد يلغي المسافة بينه وبين الشعر، عبر استثمار «الشعبي والمأثور» والسهل الممتنع، وترجيح الانسياب والانسجام وسهولة التخلص من الحشو وتوظيفه للوصول إلى المفارقة، إضافة إلى الاستعانة بالحيلة الذهنية والظرافة والألاعيب البسيطة في الخيال والمعنى لخلق قصيدة موجزة.
وعلى رغم العقود التي قضاها داخل الثقافة الفرنسية وترجمته أشعاراً منها، نرى الشاعر يعبر عن صلته الأقوى بالشعر العربي، ساعةَ الحقيقة وحينَ الاعتراف، عبر هذا التصويت للاوعي: «أحببتُ لوتريامون وأناشيدَه/ بودلير لأيِّ سببٍ كان/ رامبو لأسبابٍ شتَّى/ لم أفهمْ مالارميه كما كان عليَّ أنْ أفعل/ وكدتُ أحبُّ كلوديل/ بروتون كان من الممكن أنْ يكونَ صديقي/ وأراغون أبي/ ولكنَّني عندما أدخلُ في غيبوبتي/ أردِّد بصوتٍ واهنٍ: ذَهبَ الذينَ أحبُّهمْ وبقيتُ مثلَ السيفِ فَردَا»
وإذ يندر أن نقرأ قصيدة أتمت صفحة او تجاوزتها بقليل، يعلن عدنان بوضوح إنه شاعر قصيدة قصيرة، ويصبح الشكل المختزل للقصيدة نفسها موضوعاً شعرياً لديه: «كلَّ ما سعيتُ لهُ في حياتي/ هو أنْ اختزلَ أوجاعاً كثيرةً ببضعةِ أسطر» ومع هذا فسرعان ما يضيق حتى بتلك المساحة الوجيزة، ويعتريه الملل من تلك اللعبة التي تستغرق زمناً أطول! فيكتب قسماً تحت عنوان «ومضات» ثم يضيق أكثر فيكتب قسماً آخر أكثر اختزلاً بعنوان «شذرات» محاولاً أن يخلق بينها فارقاً فنياً مفترضاً ليس بالاختلاف الشكلي في طول القصيدة أو قصرها وإنما في الأداء النفسي والفني الذي تؤديه الجملة الواحدة بين «الومضات» و«الشذرات»
يعي صاحب «نصوص عن الغير» الخصائص النقدية للقصيدة القصيرة ومراجعها التي تدخل في تكوينها لذلك فهو يعيد صياغة الأقوال المأثورة، والأمثال، والتعريفات، ويلتقط الشفاهي من اليومي ويزجها في الشعري، والمفارقة التهكمية التي يخلقها مع السائد: «في لسانِ العرب أكثر من 100000 كلمة/ وحده لسانُ العرب أطولُ من لساني!» أو بتحويل التناص مع عبارة سعدي الشهيرة: «أسير مع الجميع وخطوتي وحدي» فيكتب: «أتوسَّدُ الجميعَ/ وأنا معي» بيد أن هذا التناص لا يخص سعدي وحده، إذ يذكّر كذلك بأحمد الصافي النجفي الذي يعبر عن نفوره وأنه «وحده مع الجميع»: يُبعِّدُني طبعٌ عنِ الناسِ نافرٌ/فأحسبُني بينَ الورى جالِساً وحدي”.
وفي هذا السياق لا تنجو جملته الشعرية أحياناً من الكليشيهات الجاهزة للمصادر المستقاة منها: «صمتي من فضَّةٍ وضجيجي مِنْ ذَهَب».
في شعر عدنان محسن «سذاجة» موصوفة ومستحبة بمعنى إنها معادل للفطرة والتلقائية بدل الحكمة: «أنا مَنْ تنبتُ الزهورُ في بيتِهِ مِنْ تلقاءِ نفسِها»: والواقع إنه يُظهر نفسه في كثير من القصائد، مرتبكاً في تدبير أموره وتصريف شؤونه، ولا يحسنُ إلا أشياء قليلة في عالم يحتاج إلى كثير من الحيل والمراوغة، لهذا تأتي قصائد بالقليل من الاستعارات البلاغية والتزويقات اللفظية والتراكيب الوحشية، حتى موضوعاته غاية في البساطة فكل ما جرى في حياته يمكن اختزاله بومضة من سطر واحد: «لو أكتبُ سيرتي لكتبتُ سطراً واحداً/ هذا طفلٌ كَبرَ سهواً» ومع هذا الابتعاد الجلي عن شعر الألاعيب الشكلية والاستغناء عن الاستغراق في غرابة الصور ووحشي الكلام، فإن كل قصيدة لدى عدنان محسن هي في الواقع لعب من نوع آخر، لعب طفل يحاول بعبث منظم الجمع بين أكثر الأشياء ألفةً من حوله، وبهذا المعنى فإن شعره ينحو إلى التآلف بين الأشياء والأفكار الطفولية، وليس إلى التأليف البياني والصوري لعوالم أخرى.
قصيدة عدنان محسن ليست راجزة، لكنها مبتسمة ابتسامة صعبة في كثير من الأحيان حتى وهي تقارب موضوعات مأساوية: «مقبرة مقاعدُها شاغرةٌ للجميعِ/ تلكَ بلادي» لذا فهو ينحاز للحياة بديلاً عن المخيلة والمعنى بديلاً عن البلاغة كما يقول الشاعر عبد الكريم كاصد في تقديمه للمختارات. وما العنوان «أكثر من صوت لحنجرة واحدة» سوى دريئة أراد من خلالها الإشارة إلى كتبه الشعرية التي اختار منها هذه المنتخبات، فتعدد الأصوات لا يبدو واضحاً، ذلك أن الصوت واحد ومنسجم هو صوت الشاعر نفسه، وحتى تنوع مستوى النبرة في كل قصائد المنتخبات يبدو منحسراً حدَّ السكون «فالصمت أطول قصيدة كتبتُها لحد الآن» وشكله الشعري يكاد يتماثل في انحيازه الحاسم للقصيدة القصيرة، وإن تباينت التقنيات الأدائية، نسبياً، داخل الشكل الواحد.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى