الهوية والأيديولوجية في أعمال المغربي منير الفاطمي

عز الدين بوركة

حاول بعض النقاد مهاجمة التشكيلي المغربي المقيم بين المغرب وفرنسا (طنجة- باريس) منير الفاطمي، باسم «الهوية»، الأمر يرجع في أغلب الأحايين للتسرع في الحكم على الآثار الفنية لهذا الفنان، الأعمال التي تحضر غالبا عبر قوة جُرأتها وما تنطوي عليه من رسائل يحاول الفنان- الباحث التعبير عنها، عبر تراكيبه وإنشاءاته الفنية، إلى جانب فن الفيديو وغيرها من الأساليب الفنية.
تندرج الرسائل التي يشتغل عليها الفاطمي، عبر أعماله الفنية، داخل دائرة موت الإيديولوجية ونهاية الدغمائية ومواضيع التفكيكية وسؤال الهوية، كما سؤال الوضع الراهن إذ سبق واشتغل على موضوع الربيع العربي في أحد معارضه الفردية.

مسألة الهوية:

وُلد منير الفاطمي في مدينة طنجة المغربية عام 1970، تَدَرَّج ليصل إلى اشتغال يخصصه برؤية تنطلق من فهم خاص وبحث يومي داخل مواضيع الراهن والهوية.
قد تكون «الهوية» موضوعا فلسفياً – وأنثربولوجياً، بالضرورة، وقد تناولتها مدارس الفلسفة من المثاليين إلى الوجوديين والتفكيكيين وعلماء النفس، وغيرهم ممن يحاول أن يجد أجوبة عن سؤال الهوية بين أسئلة الوجود البشري. فقد عالج المثاليون الهوية ميتافزيقيا، بينما جعله البعض القانون الأول في موضوع الوجود البشري وقد ذهب البعض منهم إلى تحليل السؤال نفسيا، وغيرها من الفلسفات التي اهتمت بالهوية كجوهر وجودي للإنسان، باعتباره كائنا ثقافيا واجتماعيا. ولم يخرج الأمر عن عالم الفن التشكيلي. ففي المشرق والمغرب ومنذ العقد الخامس من القرن المنصرم ظهر سؤال الهوية في الفن التشكيلي «العربي»، إذ حاولوا أن يجيبوا عن هذا السؤال عبر اشتغال داخل أبحاث وفضاءات خاصة، كما الحال مع مجموعة البعد الواحد في العراق والحروفية وغيرها، ومع مجموعة الدار البيضاء في المغرب التي عالجت عبر أعمال فنانيها مسألة العودة إلى التراث… ومنذ زمن ليس بالبعيد، ظهر إلى السطح جيل جديد من الفنانين، أُدرجهم في «الحساسية الجديدة»، حاولوا طرح سؤال الهوية عبر دعوة صريحة إلى الانخراط في العصرنة، وما ارتبط بها من فن معاصر وأنواع المدارس المتعددة: فن التجهيز والإنشائي وتأثيث المكان وفيديو آرت، والاستعراض وبيرفومنس (فن الآداء) والفوتوغرافية والنحت.
منير الفاطمي واحد من هؤلاء الذين جمعوا بين هذه الفنون، من فن الفيديو/ النائم 2005، حيث يعرض الفنان شريطا، من الأبيض والأسود، من 6 ساعات لرجل نائم عريا في هدوء تام رافعا وخافضا إيقاع تنفسه، وفن تجهيز (إنشاء) الدليل والآلة والصباغة والتصوير وغيرها… بالإضافة للبرفورمونس المفارقة 2014 باريس.
لقد تأسس الفن العربي المعاصر من خلال تلك التصادمية بين الأنا والآخر، ومحاولة الخروج عن البطريرك والأب الغربي، من خلال البحث عن خصوصية فنية مغاربية ومشرقية خاصة، هذه التصادمية جعلت الفنان العربي يجد نفسه بين ثنائية «العربي /الغربي» أو «الأنا /الآخر»، ما شكل لديه التباسا كبيرا في مفهوم الهوية الفنية وكيفية صياغة هوية خاصة. فكان من الفنان العربي إلى أن يعود إلى التراث بعدما تبيّن له أنه قد سبق وشكل ريادة فنية ومعمارية سابقة، يمكن استخلاص هويته الفنية منها، مع الحفاظ على ما تحصله من الفن الغربي ومدارسه، على خلفية هذا تأسس جيل من الفنانين المعاصرين بأفكار ورؤى فنية نابعة من هذا الصراع الإيديولوجي «الغربي/العربي». ينتمي منير الفاطمي إلى هذه الموجة الفنية المعاصرة، التي ترعرعت داخل هذا «الصراع»، إلا أنه استطاع أن يخرج برؤى خاصة اشتغل من خلالها على مفرداته وخاماته وأشكاله وخطوطه الجمالية، إذ نلمس في أغلب أعماله محاولة لتجاوز الصراع الذي يحاول أن يخبرنا أنه «صراع وهمي» ولابد من تجاوزه نحو «هوية غير متشبثة بالماضي وباقية طي أفكاره». فحينما يأخذ مجموعة من الآيات القرآنية ويضعها في دوائر حديدية مسننة، ليس مسا بالكتاب المقدس كما حاول البعض وصف الأمر، بل إنها محاولة لتمرير رسالة كون أن هذه الآيات وبعد ما طالها من تأويل مُؤَدلج من قبل الشارحين عبر الزمن (حسب تعدد المذاهب وتطاحنها) قد اكتسبت أنيابا حادة وشروحات قاتلة، ما خلق هذا الصراع الذي لابد من تجاوزه؛ إلا أنه لن يتم ذلك إلا عبر حك تلك الأنياب وإزالتها، ويتضح الأمر جليا في البرفورمونس الذي سبق وقدمه تحت عنوان «مفارقة (بارادوكس)».

الفن وصراع الهوية:

وردا على الصراع بين «الأنا العربي/الآخر الغربي» قدّم الفنان الفاطمي عرضه الموسوم بـ»إنقاذ مانهاتن (01/ 02/ 03) «، على خلفية ما عرفته مدينة مانهاتن وبرجاها الشهيران سنة 2001 أو ما أشتهر بأحداث 11 سبتمبر/أيلول التي أججت هذا الصراع وما تلاه من حروب في المشرق، وما خلفه من سياسات وثورات هناك. «والمميز في هذه التجربة المتكررة لدى منير الفاطمي – كما يُخبرنا الكاتب طلال قسومي- كونها قدمت في تصورات مختلفة وكانت المواد الموظفة في طرح العمل هي موطن الاختلاف، حيث سعى الفنان لقراءة هذا الحدث وفقا لتطورات تفاعل العالم والباحثين معه، محاولا كشف وتعرية جوهر الأحداث والأفعال التي رافقته. وعلى الرغم من تكراره فإن هذا العمل يحمل الفكرة القائمة ذاتها أساسا على تأويل الواقع وطرحه بأسلوب يرتقي بالحدث إلى مستوى الإبداع». فالفنان قدم عرضه (الإنشائي/ الظلي) عبر وضع مجموعة من الكتب التي رافقت الأحداث وما تلاها وأيضا مجموعة من الكتب الدينية الإسلامية ومن بينها نسختان من القرآن، مسلطا الإنارة القوية على الكتب، ما يُشكل عبر الظل برجي مانهاتن والمدينة. وما توظيفه للكتب الدينية إلا إيحاء على الخلفية (التأويلية) التي انطلق منها منفذو تلك الأحداث.
استطاع الفاطمي عبر اشتغال وبحث مخالف للسائد أن يعطي أعماله سمة الدهشة والصدمة، التي يحاول من خلالها التعبير عن أفكاره تجاه «الصراع الوهمي»، وأيضا وضع سؤال الهوية موضع الكشف، محاولا أن يجدد الرؤية حول السلف والتراث. خالقا بذلك سجالا جديدا في العلاقة الثنائية الجامعة بين الأثر الفني، كفعل في التاريخ والواقع، مُسائلا الواقع عبر الفعل الإبداعي المُنبعِث من العصرنة وجوهرها.

موت الإيديولوجية:

يعمد الفاطمي عبر هذا الاشتغال إلى تدمير مفهوم الإيديولوجية، العربية خاصة، المبنية على تأويلات لا متناهية للدين، ما يجعل من العربي المسلم داخل دائرة لا ينفك يخرج منها ليعود إليها، لكونها حلزونية وشائكة. فلا حل إذن عند منير الفاطمي إلا كسر تلك «الأسلاك» ومحاولة العبور إلى العصرنة، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال تجاوز الإيديولوجية أو الإيديولوجيات التي تولّدت من خلال التأويلات المتعددة للدين. فبالضرورة الانتماء الإيديولوجي يأخذ صاحبه إلى عدم الاعتراف بالآخر والدخول في صراع سياسي يتولد عنه صراع تاريخي، كما إنكار الأقليات وحقوقها… مما يولد بشكل فظيع الحروب والدمار للإنسانية، كما عرفه العالم الغربي وشهده على خلفية الصراع الذي قام بين المعسكرين «الغربي والشرقي» /»الرأسمالي والشيوعي»، وما نتج عنه عالمياً.
يقترب الفاطمي عبر اشتغالاته الفنية من فكر الفيلسوف الراحل تيزفتان تودوروف، إذ ليس هناك، سوى حضارة واحدة، وهي الإنسانية. فكل من هو كائن إنساني، حسب تودوروف، «حضاري بالضرورة»، كما هو حال كل دولة لا تنفي الآخرين من الإنسانية، وأيضا كل من لا ينفي عن الآخر إنسانيته، فهو «حضاري». وعلى نقيض من ذلك، فكل من هو «بربري» هو مَن ينتزع من الآخر، ولو مؤقتا، ولو دونما اعتراف، وضعه الإنساني/البشري، كما هو حال كل من يعطي لنفسه الحق والقوة لتعذيب «الآخر» وسجنه وإذلاله.
الإيديولوجية وموتها تعد من الأطاريح الفلسفية المعاصرة التي تحاول الانتصار للإنسانية بعيدا عن كل أشكال الدمار الذي تولد من خلال الصراع الهوياتي. ويأتي الفن كشكل من الأشكال التعبيرية والفلسفية التي من خلالها يمكن أن نجيب على مسألة الهوية والوصول إلى حضارة إنسانية متحدة، بعيدا عن كل التأويلات التي تأخذ الإنسان نحو النهاية وحتفه.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى