الياباني أكيرا كوروساوا: كتابة الأفلام قبل إخراجها

سليم البيك: في شهر مارس/آذار من العام الماضي، صدر خبر عن عمليات ترميم لأفلام المخرج الياباني أكيرا كوروساوا، وفي الصيف الماضي بدأت بعض الأفلام تُعرض في الصالات الفرنسية، بالتزامن مع نسخ DVD مرمّمة ومرفقة بكتيّبات خرجت إلى المكتبات.
وصارت تدور الأفلام التي خرجت بدفعتين، على الصالات الفرنسية، إلى أن تم عرضها، جميعها، وهي 17 فيلماً مرمّماً، إضافة إلى أفلام أخرى للمخرج لم يتم ترميمها وأخرى مرممة مسبقاً، في المكتبة السينمائية في مدينة تولوز، السينماتيك، ضمن احتفاء استعاديّ هو الأكبر في فرنسا، بأحد أهم المخرجين في تاريخ السينما وأكثرهم تأثيراً.
صدرت النسخ المرمّمة بجزأين: الأول يشمل تسعة أفلام من بينها «في الحضيض» (1957) و«الأوغاد ينامون بسلام» (1960) و«يوجيمبو» (1961) و«بين الجنة والنار» (1963)، لحقتها مجموعة أخرى كان من بينها «الملاك الثمل» (1948) و«كلب مسعور» (1949) و«حياة» (1952) و«القلعة المخبأة» (1958) و«سانجيرو» (1962) و«ذو اللحية الحمراء» (1965). وهي أفلام تُعرض للمرة الأولى في السينما بعد ترميمها، نضيف إليها أفلاماً أخرى غير مرمّمة عرضتها سينماتيك تولوز كذلك كـ«كاجيموشا» (1980) و«ديرزو أوزالا» (1975)، وأخرى مرمّمة مسبقاً، وهي أهم أفلام كوروساوا التي لا تخلو لائحة جادة لأفضل الأفلام في التاريخ منها، وهي «راشومون» (1950) و«ران» (1985) وبالتأكيد «الساموراي السبعة» (1954). ليكون مجموع ما عرضته السينماتيك خلال شهر مارس 24 فيلماً بين مرمّم وغير مرمّم.
قد تكون الفترة الذهبية لكوروساوا هي خمسينيات القرن الماضي، حيث أنجز ثلاثة من أهم أفلامه وهي «راشومون» الذي نال جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا وقدّم كوروساوا وعموم السينما اليابانية، إثر الحرب العالمية الثانية، إلى الجمهور الغربي والعالمي، يليه «حياة» و«الساموراي السبعة»، وهي أفلام أُنجزت ما بين 1950 و1954. قد يكون أحد أسباب هذه الطاقة الكوروساويّة آنذاك هي إمكانيته صناعة أفلام دون رقابة، إثر خروج الحكم العسكري الأمريكي من اليابان، وقد بقي فيها لبضع سنوات إثر الحرب العالمية (لترسيخ الديمقراطية) فارضاً رقابة صارمة على كافة الجوانب الحياتية والإبداعية لدى اليابانيين، من بينها منع صناعة أفلام تذكّرهم بمقاتلي الساموراي لما فيهم من رمزية وطنية وبطولية وقتالية.
لكن لا يعني ذلك أن كوروساوا كان بعيداً عن الثقافة الغربية، فقد تأثر بها، إن كان سينمائياً لإعجابه بجون فورد وأفلام الوستيرن، أو أدبياً لإعجابه بشكسبير، وقد نقل من مسرحياته إلى البيئة اليابانية، كـ«الملك لير» في فيلم «ران» و«ماكبيث» في فيلم «عرش من الدم» و«هاملت» في «الأوغاد ينامون بسلام». نضيف إلى ذلك حضور الثقافة الغربية في أفلام كوروساوا التي تصور يابان ما بعد الحرب، حيث البيسبول والبدلة الرسمية ورقص الروك أند رول والموسيقى الكلاسيكية والنوادي الليلية وغيرها.
لكن أفلام كوروساوا الأخرى، التي تصوّر يابان القرون الماضية، حيث مقاتلي الساموراي، هي التي، أكثر من غيرها، صنعت له مكانته السينمائية، وهي التي جعلت الغرب هذه المرة يستقي من أفلامه بشكل مباشر، ليكون «الساموراي السبعة» أحد أكثر الأفلام تأثيراً بغيرها في تاريخ السينما.
يُذكر أن كوروساوا لم يغيّر كثيراً من ممثليه الأساسيين، بالأخص توشيرو ميفيون الذي شارك مع كوروسارا في 16 فيلماً، كان له دور البطولة في معظمها، لتكون صورته هو تحديداً بلباس وأسلحة الساموراي، المتكررة كما صوّرها كوروساوا، الأقرب للذهن في أي حديث سينمائي أو فني بالعموم عن الساموراي. وكذلك تاكاشي شيمورا الذي تفرّد ببطولة فيلم «حياة» (أو «إيكيرو» باليابانية) البديع.
الحديث عمّا يمكن أن يجعل كوروساوا استثنائياً في تاريخ السينما يطول، إنّما هنالك ثلاث مسائل جوهرية في ذلك: أهم أفلامه كانت من إنتاج شركة «توهو» التي أتاحت له حرية تامة، وهو نفسه منتج أفلامه.
كوروساوا، وهذا الأهم، هو المونتير لأفلامه، فالسينما كما هي تصوير بكاميرا هي كذلك مونتاج يصنع المَشاهد، ونادراً ما نجد مخرجاً يضطلع بعملية المونتاج (أي التحرير) لأفلامه. وكوروساوا كذلك مساهم دائم في كتابة السيناريو لأفلامه، كما أنه كان دائماً كاتب سيناريو لأفلام الآخرين، هو إذن كاتب سينمائي كما هو مخرج ومونتير سينمائي لأفلامه، وفي مقابلة تلفزيونية أجريت معه في سنواته الأخيرة، نصح السينمائيين الشباب بأن يكتبوا الأفلام ويتركوا الإخراج لمرحلة لاحقة، فالكتابة هي الأساس. وهذه المهام الثلاث التي مارسها في أفلامه (الكتابة والإخراج والمونتاج) هي الأهم في مجال صناعة الفيلم، وغالباً ما تُوزَّع على ثلاثة منفّذين. ومن مكامن القوة في أعمال كوروساوا هي لقطاته السريعة المقطوعة والموصّلة بشكل ميّزه لتكرّره في عدة أفلام، كأن يأخذ لقطة عامة، فأخرى منقطعة عنها أكثر قرباً، فأخرى منقطعة كذلك أكثر قرباً إلى مركز الصورة، ما يجعل للمشهد استمرارية متقطّعة بين لقطاته (اللقطة الأخيرة من «ران» وإحدى اللقطات الأخيرة من «الساموراي السبعة»)، وهذا عمل مونتاج أساساً، وفي ذلك يقول بأنّ «التصوير هو صناعة شيء ما يمكن تحريره». وهنالك ميزات أخرى في شغل كوروساوا، فهو يصوّر الفيلم بحسب ترتيب المَشاهد فيه، كما أنّه يصوّر بأكثر من كاميرا في الوقت نفسه، وكلا التقنيتين تكلّفان المنتجين وتربكان الممثلين وغالباً ما يتجنبهما المخرجون.
وقد توافرت أفلام كوروساوا بنسخ مرمّمة، مختلفة جداً عنها ما قبل الترميم، يمكن القول إنّها مناسَبة لاكتشاف أو إعادة اكتشاف هذا المخرج الياباني من خلال أفلام مقاتلي الساموراي وحروب الإقطاعيات والجرائم والتحقيقات والدراما المعاصرة وغيرها من أوجه الحياة في يابان ما بعد الحرب، كما في يابان حروب ومعارك القرون الوسطى. ودائماً، حيث للبعد الإنساني في سينماه مكانة أساسية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى