المغربي عبد الرحيم لحبيبي: «تغريبة العبدي» وحي لا يتحقق إلا مرّة واحدة

عبد الله حدادي

على الرغم من قِلة أعماله الروائية، يعد عبد الرحيم لحبيبي أحد الأصوات الروائية في المغرب، (أربع روايات) وصلت ثالثتهن «تغريبة العبدي» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2014. عن العالم الروائي للحبيبي، أفكاره وتقنياته السردية التي يحاول من خلالها التواصل مع شكل أدبي وجمالي يشغل المساحة ما بين التراثي والحداثي، كان هذا الحوار ..

■ ما الإضافة التي تحملها روايات لحبيبي إلى الرواية المغربية عبر ما يقارب ثمانية عقود من عمرها الأدبي؟
□ لست المعني الوحيد بهذه الإضافة، جيل روائي جديد يسعى إلى بلورة أسلوب جديد في الرواية المغربية شكلا ومضمونا. رواياتي الأربع إلى حد الآن تسعى إلى هذا الأفق، عن طريق تقديم إضافة نوعية تتجاوز المستهلك والمكرر لتنفتح على آفاق الرواية العالمية، من خلال رؤية إنسانية ووجهة نظر قادرة على تقديم أجوبة تنير ظلمة الحياة وتساهم في خلق مجتمع يسوده العدل والإخاء والمساواة.
■ نجحت روايتك «تغريبة العبدي» في الوصول إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، كما حظيت بتقدير نقدي واسع. هل ترى أنها الرواية التي نقلت تجربتك إلى دائرة الضوء؟
□ يمكن اعتبار رواية «تغريبة العبدي» من صنف السهل الممتنع، إذا قرأتها حسبتها سهلة، لكن الصعوبة تظهر عند محاولة كتابتها وصياغتها. أعتقد أن التقدير الذي حظيت به يعود بالدرجة الأولى إلى فرادتها وصعوبة تقليدها.
■ ما الميزة التي يمكن أن تسم بها هذه الرواية إذا ما قورنت بروايتي «خبز وحشيش وسمك» (2008) و«سعد السعود» (2010) السابقتين، أو بروايتك الأخيرة «يوم يبعثون» (2016).
□ تتميز «تغريبة العبدي» بميزات عديدة.. لغة النص التراثية، لغة التحقيق، النصوص الهامشية التي تمثل نصا مستقلا عن النص الأصلي (نص المخطوط)، وفي الوقت نفسه تمثل نصا مصاحبا ومندمجا في المخطوط. تعدد الساردين وتعدد الأصوات واللغات. إن الميزة التي تسم الرواية هي شغف القارئ بها وانكبابه على قراءتها، مهما كانت مستويات القراءة متباينة، فكل قارئ، مهما كان مستواه الثقافي يجد ضالته فيها.
■ نحن أمام نص روائي يتجلى عبر متن الرحلة. ماذا عن الاستراتيجية الكتابية التي أنجحت هذه التوليفة؟
□ تبدأ الاستراتيجية الكتابية بزمن الرواية، القرن التاسع عشر، ومكانها فضاء الرحلة، من المغرب إلى الحجاز، المخطوط، اللغة التراثية، التحقيق، الصياغة الإجمالية. عثور المؤلف المتخفي في سوق العفاريت في أسفي على مجموعة أوراق مخطوطة، ومحاولاته المتعددة للقيام بتحقيقه، لكنه لم ينجح في ذلك، الأمر الذي دفعه إلى القيام بهذا العمل دون إشراف جامعي، ثم تأتي اللغة التراثية باستعماله لمعجم لغوي ينتمي إلى القرن التاسع عشر، مع تشديد الحذر والحيطة من تسرب لفظة أو عبارة حديثة. هذه اللعبة السردية جعلت من «تغريبة العبدي» رواية حداثية شكلا ومضمونا.
■ أكد كيليطو أن «الكتاب العرب لن ينجحوا في منافسة الكتاب الغربيين إلا إذا اطلعوا على النصوص الكلاسيكية». ما رأيك؟
□ تحدث عبد الفتاح كيليطو عن حق خاصة أن الكثير من أبحاثه القيمة مؤسسة على التراث العربي التي استطاع من خلالها صياغة أفكار ونتائج لم يسبقه إليها أحد. فالاطلاع على النصوص الكلاسيكية التراثية يشكل البدايات الأولى للتاريخ الإنساني، للسيرورة التي حفرها الأولون. هناك قطائع في هذه السيرورة والصيرورة أيضا، ولكنها إيجابية ومحفزة للعقل البشري. التاريخ هو غرفة النوم التي نعيش فيها أحلام الماضي وكوابيس المستقبل.
■ يقول بول فاليري: «الشكل ذو كلفة عالية». ما كانت كلفة اعتمادك على الشكل الرحلي التراثي في رواية التغريبة؟
□ الشكل الروائي هو النواة الصلبة في كل رواية، وتزداد صعوبته وكلفته في الشكل الرحلي الروائي، لأنك تحتاج إلى وسائل وأدوات وتقنيات ومعارف وذاكرة قوية لكي تصل إلى درجة شديدة من التماهي مع النص التراثي، تذيب بواسطتها الفوارق بين الماضي والحاضر، وتخلق من الماضي حاضرا، ومن القديم جديدا.
■ اعتماد مخطوطة قديمة حيلة كتابية ليست جديدة كل الجدة، تجسدت مثلا في «دون كيشوت» لسرفانتس، و«اسم الوردة» لأمبرتو إيكو، و«عزازيل» ليوسف زيدان. وهو ما يُناظر مسوغ «التأليف نزولا عند الطلب». لماذا الرحلة الحجازية تحديدا؟
□ «دون كيشوت» و«اسم الوردة» و«عزازيل» لم تقدم نصا متكاملا للرحلة، هي أشارت فقط إلى نصوص مخطوطة، وذكرت بعض أفكارها وأحداثها، ولم تكتب مخطوطا متكاملا يوحي فعلا وحقيقة بأن صاحبه نسخه وكتبه خلال رحلته إلى المشرق، هذا الالتباس والتمويه والسحر إن شئت هو الذي محا الفوارق بين المؤلف الحقيقي والمؤلف المتخفي.
■ يقول بورخيس: «إننا نكتب، لأننا ببساطة نقرأ»، والمطلع على رواية التغريبة، يلحظ بوضوح اطلاعا موسوعيا يبدأ من التاريخ ولا ينتهي عند الجغرافيا، والأنساب والتصوف. ماذا قرأ لحبيبي لكي يكتب التغريبة؟
□ القراءة من أجل أن تكتب ليست عملا محددا أو محدودا بكتب أو مراجع معينة. صحيح أن عملا روائيا محددا قد يلزمك على العودة إلى مراجع معينة، لكن عملا موسوعيا وبدون حدود، قد يغرقك في بحار من المعرفة والعلم، قد لا تكون قادرا على التمييز فيها بين ما يصح وما لا يصح. أعتقد أن طول المراس وصحبة الكتب ومعاشرتها وحسن انتقاء المراجع لما هو مطلوب ومفيد، قد يخلق من الرواية حديقة خلابة وممتعة.
■ نرى في رواية تغريبة العبدي جهد الباحث إلى جانب صنعة المبدع. ألم يعد الخيال وحده كافيا لكتابة رواية جيدة؟
□ صحيح أن الخيال لم يعد وحده كافيا لكتابة الرواية الجديدة والحديثة. لقد اتسعت رقعة المعرفة وتشعبت، وتعددت المصادر والمناهل والمدارس الفكرية والمذهبية والأدبية والعلمية، وأصبح ما كان متخيلا واقعيا، وحتى الرحلات الفضائية وزيارة الكواكب والإقامة فيها، وربما العيش فيها مستقبلا، أصبحت واقعا ملموسا ومرئيا، ولكن هذا لا يمنع الكاتب من التخييل والتخيل وخلق أشكال خيالية جديدة مما هو واقعي. إن كل ما هو واقعي يصبح خيالا، وما يصير خيالا يتحول بعد ذلك إلى واقع.
■ ما الكلمات/المفاتيح التي يمكن عبرها فهم شخصية العبدي؟
□ هناك فعلا سنن وجودي لكل شخصية روائية، تحكمه كلمات/ مفاتيح، لكنها تختفي أحيانا حتى على المؤلف، ومن الممكن أن يصل إليها القارئ/الناقد باعتباره حكما محايدا يرى من الخارج، في حين أن المؤلف يغوص في الداخل مشرحا ذاته. فكيف يراها؟ جسم على مشرحة الطبيب، فهل يراه المريض؟ إنه يحس ويشعر، ويتألم ويحزن ثم يبكي، ومع ذلك يبقى في حوزته بعض المفاتيح، كالرحيل من أجل البحث عن المعرفة والصلاح، الغادة المفتقدة، النفس التاريخاني، لا عقب له فحياته منذورة للتضحية والفداء، القائد والحكيم طيلة مراحل الرحلة.
■ يرى جورج لوكاش أن مضمون الرواية هو «تاريخ تلك الروح التي تسير في العالم لتتعلم معرفة نفسها وتبحث عن مغامرات تثبت فيها ذاتها وتبرز قدرتها وتستكشف جوهرها الخاص». إلى أي حد يتقاطع هذا التعريف مع فهم لحبيبي للرواية، ومع مسار/مصير العبدي في التغريبة؟
□ تنطبق مقولة «لوكاتش» على رواية «تغريبة العبدي» بصورة تامة كاملة، رحالة يسعى إلى المعرفة والهداية والنور الإلهي، مغامرا بنفسه في الفيافي والقفار، حيث تلتقي مصائر المغامرين وتتقاطع لتخلف مسارا واحدا.
■ بسبب المساحة الواسعة التي يشغلها المحكي التاريخي داخل الرواية، هل تعد التغريبة رواية تاريخية أم ماذا؟
□ لم تكن «تغريبة العبدي» رواية تاريخية، ولن تكون. لا على مستوى التصور والإعداد والإنجاز، ولا على مستوى الكتابة الروائية. ولم يكن التاريخ محركا للأحداث، ولا متحكما في تفاصيلها وجزئياتها. استعمال التاريخ مجرد عون أو سند في رسم حادثة معينة ومؤطرة لتحفيز القارئ على تصديقها، وبالتالي إقناعه بأنه يقرأ سردا تاريخيا واقعيا، والعبدي شخصية واقعية. وفي الختام، لقد كان المخطوط موجودا، إنه الخيال الذي أصبح واقعا، هذه هي اللعبة السردية التي تضع القارئ في المنزلة بين المنزلتين، الواقع والخيال، الكذب والصدق، التردد إيجابا وسلبا بينهما. وهذا ما التبس على بعض القراء، وهذه هي لذة الكتابة. التبس عليهم الأمر، ولم يصدقوا أن المخطوط منجز من طرف قلم كاتب معاصر. في فضاء صحراوي، بيئيا وثقافيا واجتماعيا، خرج العبدي ليجد الجواب عن أسئلة حارقة، لكنه لم يتمكن من ذلك، كما لم يتمكن من الاندماج في تاريخ المرحلة التي عاشها، ولا في البلاد التي رحل إليها. هذا التاريخ لم يكن تاريخه، تاريخه الحقيقي لم يأت بعد.
■ نستشعر في التغريبة إصرار كاتبها على أن يكون أديبا بالمعنى الكلاسيكي، ناقلاً للمعرفة وقادراً على التعايش مع مجالاتها المتنوعة. ما رأيك في هذا الطرح؟
□ أتمنى أن أحقق هذا الهدف، وأن أجد الموضوعات التي تمنحني التعايش والتساكن مع مختلف الآداب والفنون، كما كان القدماء من أدبائنا يفعلون.
■ هل تعتقد براهنية بعث سؤال النهضة مجددا؟ ثم ألم تغامر بالخوض إبداعيا في سؤال صار يبدو عند كثيرين متجاوزا؟
□ سؤال النهضة، سؤال دائم ومستمر، والقطائع التاريخية تفصل بين ما تقادم وتخلف عن الركب، وبين ما يسعى إلى احتلال مكان المقدمة، النهضة ليست مرحلة معينة، بل هي كل مرحلة تقدم نموذجا جديدا في الحياة والعلم والثقافة.
■ قد يرى بعض القراء في النهاية المفتوحة التي اقترحت للرواية أنها نهاية مُجهَضة، تحبط أفق انتظار القارئ، هل توافق على هذا الرأي؟
□ العظماء لا يحتفل بموتهم، لأنهم يموتون في ساحة الوغى، أو وهم مدفونون تحت ركام الكتب، أو في مكان منفرد خال. العبدي من هؤلاء، جاء إلى الدنيا في صمت، ورحل في صمت.
■ انتهجت أعمالك بنية التراث السردي، إلا أن روايتك الأخيرة يوم يبعثون (2016) تنفتح على موضوع التطرف الديني. كيف تفسر هذا الانعطاف؟ وما حوافزه؟
□ هذا ليس انعطافا، بل هو مسار روائي ومشروع للكتابة، من الصعب على الروائي أن يكتب عن الماضي وأن يعيش ويحيا فيه، حتى لو كان ذلك ممكنا ومتاحا له، كما لا يمكنه أن يكتب عن الحاضر بلغة تراثية وبالشكل الذي تزينت به «التغريبة».
أعتقد أن كتابة رواية كالتغريبة فرصة إلهام أو وحي لا تتحقق إلا مرة واحدة. «تغريبة العبدي» واسطة العقد على جيد غانية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى