«القاهرة» وعالمها الثقافي… بقايا الزمن الغابر

هاشم شفيق

في الظن، أن الجو الجميل الذي تتمتع به مصر على مدار السنة، هو ما يجعلها هدفاً للزائرين من كل بقاع الأرض، فضلاً عن العمق الحضاري والتاريخي، الذي تتسم به مصر والمتجسّد في المواقع التراثية والتاريخية والدينية والسياحية والأثرية، تلك التي تجعلها قِبلة للزيارة في كل المواسم وليس في موسم محدد .إنها هبة إلهية، لبلد اقتصاده في حالة غير مستقرة، في زمن الفاسدين والحاكمين الطامعين الذين نهبوا كل شيء، وورّثوا أبناءهم الحريات اللامحدودة في تجريف المال العام .لكن مصر الجميلة والبهية والمؤنسة، تحاول تخطي الأسوار والخسائر والعوائق، بالتحدي الموجود في أفئدة شبابها الطالع والضاحك والمبتهج لأبسط الأمور الحياتية التي تواجهه، فهو مستعد إلى تحويل السواد إن حلّ الى ومضات من الفرح الدائم، المزاح هو هوية المصري، هوية مؤطرة بالطيبة والحنوّ والتعاضد بين الناس، وهذا ما لمسته لمس اليد، ليس بينهم فقط، بل مع الجميع الذين يكونون على أرضهم .

الزمن الباقي

في مصر يحس العربي وحتى الأجنبي أنه في أرضه، في مكانه، في الحيز الصحيح، الحيز الذي يجعل القلب يرفرف وهو يخطو في هذه الزحمة العجيبة، ربما الأوربي يُذكِّره هذا الزحام بأجواء «ألف ليلة وليلة». لا غزاة هنا يسلبونها حاضرها وخيراتها، ولا مهيمن من الجيران، يرشدها إلى طرق الظلام والفكر المغالي، الطائفي والمذهبي، ولا يوجد هنا ديكتاتور صغير، يطعن خاصرته كل يوم بالحراب ويتركها جريحة وفريسة للذئاب العابرة، في مصر تحس أنك بين أهلك ومحبيك، وناسك، بين الماضي من الفن الذي لا يُنسى، الماضي الذي ما زلنا نعتاش ونتغذى جمالياً عليه.

الزمن الضائع

أجد أن المصري، بفطرته المجبولة على التماهي مع الآخر، أياً كانت هُويته وأصوله وجذوره، يسعى الى مساعدتك ان طلبت المساعدة والتسآل، ينبري يوصف لك ويشير ويُدل حتى تجد غايتك، أسير وأسأل أياً كان عن شارع «عماد الدين»، الكل هنا يُدل، أو يعتذر بأدب إنْ لم يكن يعرف، أصل الشارع الذي أبحث عنه، وفي رأسي أحمل تاريخاً رومانطيقياً عنه، فهذا الشارع كان أيام الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، هوليوود العرب، المكان السار والبهيج الذي كان يمور بالمسارح ودور السينما والنوادي الليلية وشركات إنتاج المسرحيات والأوبريتات والفرق الموسيقية والمسرحية، آتي لأتتبع خطى العمالقة، من الملحنين والمطربين والممثلين والمخرجين في هذا الشارع، إذ حوله ستجد شوارع صغرى بأسماء زكريا أحمد وسيد درويش ونجيب الريحاني، وإذا ما استمررت فيه إلى آخره ستكون في شارع محمد فريد الذي سيوصلك الى قصر عابدين، هناك سأقضي بعض السهرات، في حانة تقع على السطح، إني محب لنوعية هذه الحانات ولا سيما الجزء البريء منها، وهو السهر مع الأصدقاء في جلسات طويلة لتعاطي الذكريات مخلوطة بالشراب والشعر والأدب، نصغي إلى السيدة أم كلثوم كوكب الشرق، ونصيخ السمع إلى الماضي المتداخل مع حاضرنا وهو يحرك الفواتن من الطرائف والمُلَح الصداقية التي يجيد بعض أصدقائي اصطفاءها وإعدادها بطريقة مذهلة وساخرة وأنا معهم أتبِّل وأملِّح وأجهِّز المائدة الكوميدية الساخرة

ظِل الريحاني

حين أحاول نبش المسارح القديمة في شارع عماد الدين، مثل مسرح السيدة ملك وجورج أبيض وعلي الكسار وغيرهم، فأني لم أجد سوى مسرح الريحاني، هذا المسرح الذي ظل صامداً حتى اللحظة في عطائه المسرحي وإنْ على قلة وتدهور وتعاضل وعسر واضح، كونه لا يستطيع التواصل مع الماضي وعالم الزمن الجميل الذي طوته الحادثات والأزمنة الجديدة التي اخترقت قلب المدينة، بكل جبروت الميديا الحديثة والمتطورة كل ساعة ويوم .

الزمن المنسي

أجد «سينما كريم» ما زالت تعرض أفلاماً معينة، وألاحظ الماضي يتركز في بعض البقايا التي بدت آثارها تبين، في طلل ورميم وتتناثر هنا وهناك، متمثلة في معلم آيل، أو في طريقه الى الزوال .في الشارع الخلفي والموازي له، والذي يقع فيه الفندق الذي أنزل فيه، أحد الأصدقاء المصريين الذين يسيرون معي، يشير إلى مبنى موضوع في يد الترميم والعناية والتجديد، وتلوح عليه من خلال نظرة أولى ملامح المجد الغابر، صديقي يقول هذا المكان كان مقهى في مصر الأربعينيات والخمسينيات، وكان في الليل يتحول إلى مسرح كبير، ففيه كان يتم اجتماع الثوار الجزائريين، ومن هنا كانوا يخططون للثورة والتحرير من المستعمر الفرنسي، وحين نصل في سيرنا الى موضع النُزْل الذي أقيم فيه، يشير إلى شقة صغيرة قال لي .. «إنها كانت سكناً للممثلة ماجدة الخطيب»، وحين نتوغل أكثر، نصل إلى وزارة الأوقاف التي قضَّى فيها الروائي العالمي نجيب محفوظ سنين طوالاً وهو مستغرق في وظيفته وعمله اليومي، بين عطن الأوراق الرسمية والروتينية. حتى وصولنا إلى الدائرة التي تقع في منتصف شارع طلعت حرب، وهنا تستطيع أن تتلمس أضواء دور السينما المتلألئة والبراقة في الليل، في عرضها للإعلانات السينمائية، فهنا ستبرز سينما راديو ومترو وميامي وبعض الدور الأخرى مما تبقى من الزمن الضالع في الماضي القريب. إحدى دور العرض تعرض فيلماً مصرياً بعنوان «القرموطي في أرض النار» وثانية تعرض فيلماً أجنبياً يتراءى عليه الزحام. في نهاية الشارع تستطيع أن ترى جزءاً من «ميدان التحرير»، أما البداية فهي ستكون للقضاء العالي، بأعمدته الرخامية العالية، تلك التي وقف تحتها ممثلون عديدون وهم يؤدون بعض اللقطات في الأفلام العربية حينها، كعبد الحليم حافظ والممثلة إيمان ومحمود المليجي في نهاية الفيلم البديع «أيام وليالي». قربه يقع «سوق التوفيقية» ولطالما تسوَّقت منه الكعك الأسمر المنقوط بحبة البركة والجبنة الرومية ذات المذاق الخاص، وفي عطفاته وزواياه المتفرعة منه، ثمّة مقاهٍ بسيطة تقدم الشاي والقهوة والاستراحة المطلوبة، لو كنت مجهداً من المشي والزحام.

القاهرة الخديوية

وأنا أجول بين هذه الشوارع المترعة بأضواء المحلات الجذابة، وأستعيد في سيري بعض مشاهد الزمن القديم، ينبئني صديق بأن القاهرة تنقسم في طراز معمارها إلى مرحلتين .. طرازالمرحلة الخديوية، والثاني طراز قاهرة المُعز، كنت في السابق لم أعِ هذه الفروق في العمارة القاهرية. من هنا فأني أجول وأسكن وأتحرَّك طوال فترة إقامتي في طراز الخديوي سعيد، ذلك الحاكم الذي عندما شرع المهندسون بشق قناة السويس، وتم موعد مراسيم تدشينها وفتحها، مختصرة بذلك الزمن والعالم والمكان في تحرك الملاحة البحرية، ونشاطها التجاري والإقتصادي، لتكون كما هي عليه اليوم، جاء بمهندسين خبراء وفنانين في العمارة، ليهندسوا القاهرة حسب طراز البناء الإيطالي، لتكون حاضرة حديثة، فيها رقي البناء الايطالي، وتصاميمه الفنية الباذخة والرفيعة، والهاجسة بالبعد الموسيقي، والهارموني المتناغم مع ايقاع موج النيل، وشاطئه الماسي.

قاهرة المعز

أما طراز «قاهرة المُعز» فهو ذلكم البناء التركي القديم، الأفقي، والذي يعتمد على المساحة ذات الفضاءات الممتدة، لتظهر من بعيد المنائر والقباب للمساجد والجوامع والمقامات الكبيرة للحسين والسيدة زينب وبعض الأئمة الذين توجد أضرحتهم هناك ومنذ زمن بعيد، ومن ضمنها مصر الفاطمية ومسجد الدروز الفسيح والمبني على طبقات الضوء المفتوح على الافق والأرجاء الحاضنة للشموس والظلال .

نهر البشر

الى هناك ذهبنا راجلين من «العتبة» المكتظة بالعربات وحركة البائعين التي لن تنتهي، حتى وصولنا الى أضواء مقهى الفيشاوي والزحمة الأليفة والمرتضاة لـ» خان الخليلي»، الشوارع المؤدية إليه لا تستطيع فيها السير، من شدة التراص الذي تشقَّه بواسطة الكتف، ولكأنك تسبح في محيط من الناس، وتود الوصول إلى المركز كيفما كان، شوارع تلتف على بعضها، متداخلة في أسواق لا تحصى من الحوائج والمعروضات التي تمتد كشلال طويل، بضاعة تتراكم فوق بعضها، مع بشر يتراكمون أيضاً، ويسدون الآفاق التي تكاد أن توصلك إلى المراد، هي توصلك ولكنْ بشق الأنفس.

ميدان التحرير

من مقهى في ميدان التحرير، اعتدت على تناول القهوة والشاي فيه، والتمتع برؤية العابرين وهم يمضون الى شأنهم اليومي، ثمة فتيان صغار يبيعون المناديل الورقية، ونساء طاعنات كذلك يحملن العلكة والمناديل، ويدرن دورتهنَّ المعتادة على مقاهي التحرير التي تضم زبائن من مختلف المشارب، شباناً مصريين من كلا الجنسين، سائحين أوروبيين، يشربون الشاي المُنَعْنَع ويتعاطون بدافع الفضول الشيشة المصرية، وهي كلمة تركية، فالشيشة تعني القارورة الزجاجية، والعراقيون يسمون أي قارورة زجاجية بـ «الشيشة» حسب العامية البغدادية .

أين الضفتان!

من هناك أتجه إلى «غاردن سيتي» بغية الوصول إلى الصديق الشاعر «جرجس شكري»، كانت مناسبة لأرى البرلمان المصري العريق، يقابله من الجهة الأخرى من ساحة الميدان المتحف المصري، وهو صرح بارز، من الآجر الأحمر، ومن بعيد تلوح ملامحه الأرجوانية، ملتحفاً في سدوره كنوزه الإسطورية، ومنطوياً على تاريخ طويل من الحضارة المصرية القديمة، أمر في طريقي بمسرح السلام وببعض المعالم الحديثة التي تشي بطبيعة المكان، حتى أصل إلى «قصور الثقافة». يهديني الصديق كتاب «الثابت والمتحول» لأدونيس الذي طبعته الهيئة المصرية العامة للكتاب، في حجم شعبي بسعر زهيد جداً، وفي إمكان أي قارئ أن يقتني نسخة منه لفرط سعره الزهيد .في الخارج كان الجو جميلاً ودافئاً والشمس البديعة تدعوك إلى زيارة كورنيش النيل، أصل الى الشاطئ، وأقف متأملاً الصيادين الفتيان في زوارقهم، وهم يرمون الشباك في النيل، من مقربة أرى الأسماك تتراقص في شباكها، لامعة كالفضة في شمس النيل، المُعديَّات تعبر النهر إلى جهات أخرى، وأنا واقف أتأمل المنحدر الحجري للنهر، والمئذنة البعيدة المزخرفة والمُخرَّمة بشكلها الاسطواني المصنوع من الصلصال، في الحال أكتب هذا المقطع الشعري» ظمآنَ وقفتُ على النيلِ ضحىً، جزتُ السُّورَ، شربتُ الأفُقَ الخوخيَّ ، ومن ثَمَّ غسلتُ الماء».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى