الحياة الزوجية ترعب الشاعر وتهدد موهبته

حسونة المصباحي

مثل “كتاب اللاطمأنينة”، تعكس اليوميات التي نقلها إلى العربية الشاعر المغربي المهدي أخريف، جوانب هامة من حياة الشاعر البرتغالي فارنادو بيسوا (1888-1935) الذي كان من أبرز وجوه الحداثة الشعرية في أوروبا خلال القرن العشرين. وكما في “كتاب اللاطمأنينة”أيضا تهيمن على هذه اليوميات سوداوية بودليرية (نسبة إلى بودلير) من البداية إلى النهاية. لكنها ليست سوداوية الإحباط والفشل واليأس، وإنما سوداوية القلق الإبداعي، والتأمل في تجليات الحياة ومتاعبها.
الشاعر النبيل

شرع بيسوا في كتابة يومياته هذه، والصادرة مطلع العام الحالي عن دار”توبقال”، عام 1906. في تلك السنة كان قد بلغ الثامنة عشرة من عمره. كان قد عاد إلى البرتغال بعد أن أمضى سنوات الطفولة والمراهقة في”دوربان” بجنوب أفريقيا. وقد ظل مواظبا على كتابة يومياته هذه حتى نهاية عام 1908. ثم توقف عن ذلك، فلن يعود إليها إلا عام 1913، ليواصل كتابتها حتى عام 1915. ومنذ تلك السنة، لم يعد إليها أبدا.

وربما يعود ذلك إلى انصرافه الكلي إلى أعماله الشعرية، وإلى إنجاز “كتاب اللاطمأنينة” الذي تكثر فيه التأملات والأفكار الفلسفية التي كانت تشغل هذا الشاعر الذي رابط في العاصمة لشبونة حتى نهاية حياته، مقتصرا على التردد على نفس المقاهي، وعلى نفس المطاعم، ملتقيا بعدد قليل من الأصدقاء، مختارا العزوبية لأن الحياة الزوجية كانت ترعبه بل لعله كان يعتقد أنها تشكّل خطرا على موهبته الشعرية العالية، وتهديدا لحريته الشخصية، وتنغيصا لوحدته اللامتناهية.

تبدأ يوميات بيسوا بتأملات فلسفية عميقة. فالإنسان ليس سوى”حشرة تافهة تطنّ مصطدمة بزجاج النافذة، ذلك لأنه أعمى”، ويصعب عليه الدنو من الضوء. وحده الشاعر قادر على أن “يهشم الزجاج باتجاه الضوء”. مع ذلك فإن الشاعر نفسه “أعمى” لأنه يستحيل عليه بلوغ “الحقيقة الأبدية”. وواصفا نفسه، يكتب بيسوا قائلا “أنا شاعر مُحَفّز بالفلسفة، ولست فيلسوفا ذا مزايا شعرية”. وهو “مفتَتن بملاحظة جمال الأشياء وبرسم اللامرئي والمتناهي الصغر مما يميز الروح الشعرية للكون”. وهذه الشعرية تكمن بالنسبة إليه في “الأرض التي لا تموت أبدا”.

الشعر عند بيسوا موجود في كل شيء؛ في”البرّ، والبحر، وعلى ضفة النهر”. هو موجود أيضا في المدينة الكبيرة التي يكثر فيها ضجيج السيارات، وحركة الناس. كما يمكن أن يتجسّد في “حركة مبتذلة ومضحكة لصباغ في الناحية الأخرى من الشارع وهو يلوّن إعلانا لدكّان لحّام”. ثمة حاسة تهيمن على حواس بيسوا الخمس تجعله يشعر أنه مختلف عن باقي البشر. لذا هو يرى الشعر حتى في ما هو “تافه، ومُحْتَقَر، ومهمل”، بل هو يراه في “مفتاح، وفي مسمار في جدار، وفي دجاجة تعبر الطريق مقوقئة”.
تأملات شعرية

الشعر بالنسبة إلى بيسوا هو “دهشة وحيرة، مثل كائن سقط من السماء، ثم تأكد أثناء سقوطه ذاهلا، من سقطته”. لذلك على الفنان أن يكون “رائعا ونبيلا لأن من يُعْجب بالجمال لا يجب أن يفتقر إليه”. والشعراء الذين أحبهم بيسوا من أمثال كيتس، وإدغار ألن بو، وبيرون، وميلتون كانوا جميعهم “رائعين، محبوبين، ومحلّ إعجاب”. وجميعهم كانوا “يمتلكون حرارة العيش والفرح الإلهي، تماما كما يليق بأيّ شاعر وأيّ إنسان”.

في اليوميات التي كتبها بين 1906 و1908، نحن نقف على قراءات بيسوا. فالقراءة بالنسبة إليه يومية وضرورية لصقل موهبته. وهو يقرأ بلغات ثلاث، بلغته الأم، وبالإنكليزية والفرنسية. والكتب التي يقبل على قراءتها ودراستها لا تتصل فقط بالشعر، بل تتصل أيضا بالرواية وبالفلسفة خصوصا. فهو يقرأ أرسطو، و”نقد العقل الخالص” للألماني كانط، و”جمهورية أفلاطون”. وعندما يشعر أن قراءته السابقة لم تكن كافية، أو مبعثرة، يعود إلى كتب كان قد قرأها في سنوات الطفولة والمراهقة ليتعمق في قراءتها من جديد.
أحيانا يهز بيسوا غضب شديد، فيلعن المؤسسات الرسمية، والمؤتمرات والحياة ذاتها. الحياة التي تشبه “الجحيم من بدايتها إلى نهايتها”. ويزداد إحساسه بالغربة حين يعاين أنه لا أحد في العائلة “يتفهم وضعه الذهني”، بل إنهم “يسخرون منه وينالون من ثقته بنفسه” قائلين إنه “يريد أن يكون خارقا”. لذا يكتب قائلا “لا أحدَ موْضع ثقة عندي. عائلتي لا تفهم شيئا. أصدقائي لا أريد مضايقتهم بهذه الأمور، ولا أصدقاء حقيقيين عندي”، فهو كائن “خجول لا يروقه إطلاع الآخرين على انشغلاته”. كما أن قلبه مقفر من الحب؛ فلا محبوبة له إلاّ في أحلامه وتصوراته رغم أنه لا يزال شابا.

أحيانا أخرى يعتريه شعور بأنه يغرق في بحر وساوسه وكوابيسه النهارية والليلية، وبأنه مجنون. وعندما يسمع حديثا عن تفاقم الرذائل والفساد، يستبدّ به ألم شديد واستياء عميق. ثم لا يلبث بيسوا أن يسترد ثقته بنفسه وبموهبته فينصرف إلى العمل، ذلك أن الحياة لا تكتسب معناها العميق إلا بالعمل والإبداع. وكان البحارة القدامى في البرتغال يقولون “الإبحار ضروري، العيش ليس ضروريا”. إذن الحياة ليست ضرورية بالنسبة إليه، وإنما الإبداع هو الضروري. لذا لا بد أن يجعل من حياته تجربة إبداعية عميقة ومفيدة تجعله “صافيا كالماء، وعاليا كالسماء”. لذلك عليه أن “يبعد الوحل عن طريق تفكيره، والأوراق الميتة عن بحيرات غاباته”. وها هو يتضرع لإله الشعر قائلا “لتكن حياتي جديرة بمثولك، ليكن جسدي جديرا بالأرض، لكن روحي قادرة على الظهور أمامك مثل عودة الابن الضال إلى البيت. اجعلني كبيرا كالشمس كيما أعبدك بداخلي، اجعلني جليّا كالنهار لكي أراك وأعبدك بداخلي”.

وفي يوميات 1924، تزداد التأملات الفلسفية تعمقا لدى بيسوا فيكتب قائلا “إنني عبارة عن غرفة بمرايا عجيبة لا حصر لها تتشوه متحوّلة إلى انعكاسات زائفة، إلى واقع غير موجود في أحد وموجود في الجميع”.

هذه اليوميات وثيقة رائعة لاستكشاف عالم بيسوا المسربل بالغموض والألغاز، والمكتنف بسوداوية جديرة بشاعر عاش الحياة كتجربة مفتوحة على الدهشة والرعب.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى