مقهى الأدباء والمثقفين ببغداد يوشك على الانهيار

فيصل عبد الحسن

صباح مشرق في بغداد بعد ليلة شباطية باردة. سائق التاكسي الذي أوصلني إلى نقطة تفتيش تمنع مرور السيارات، وتسمح للمشاة فقط بالعبور قريباً من ساحة الميدان وسط بغداد، قال لي معتذراً “لن أستطيع أن أمر إلى شارع المتنبي. الطريق مغلقة كما ترى”. هذه العبارة لم يكن يقولها أيُّ سائق تاكسي، قبل إثنين وعشرين عاماً حين كنت في العراق في عام 1995. كانت وقتها الشوارع مفتوحة من الصباح إلى المساء في فترات الحروب والسلام. فماذا حدث لبغداد؟

اندهشت ونظرت إلى وجهه لكي أتحقق من أنَّه لا يسخر مني. لكنني رأيت في عينيه نظرة منكسرة، وهو يستلم مني أجرته “خمسة آلاف دينار، ما يعادل خمسة دولارات”. وهي الأجرة التي اتفقت معه عليها قبل أن يوصلني إلى باب المعظم، فسيارات التاكسي لم تعد بالعدادات كما كان الأمر في العراق خلال السبعينات من القرن الماضي. كان الدينار العراقي وقتها يساوي ثلاثة دولارات وثلث الدولار.

عرفت بعد ذلك أن أكثر العراقيين يقولون عبارات “خادم عندك” أو”بخدمتك” تذلُّلاً لزبائنهم بسبب ما لاقوه من صعوبات الحصول على لقمة العيش خلال السنوات الماضية. سألت نفسي “كم من الذُّلِّ ذاق أهلنا في العراق طيلة السنوات الماضية، لتكرر ألسنتهم هذه العبارات، وغيرها من عبارات التَذَلّل طيلة يومهم من الصغير إلى الكبير؟”.

كان هدفي في ذلك الصباح الوصول إلى مقهى حسن عجمي، مقهى الأدباء “سابقاً ” الذي بَقِيَ في ذاكرتي طيلة السنوات الماضية.
في عمر 100 عام

المقهى الشهير لا يزال في مكانه في شارع الرشيد. معظم المقاهي والمكتبات تحولت في هذا الشارع إلى محلات لبيع الأحذية والألبسة الجاهزة والبضائع الصينية زهيدة الثمن. ولم يبقَ من ثمانية مقاه تراثية عريقة سوى ثلاثة، مقهى الزهاوي والشابندر وحسن عجمي. واختفت بقية المقاهي التراثية كمقهى عارف اغا الذي كان الشاعر معروف الرصافي يجلس فيه، ويقع قبالة مقهى حسن عجمي، واختفى مقهى خليل الذي كان يقع قريباً من تمثال الرصافي. وكانت تجلس فيه جماعة الشاعر حسين مردان بعد عزوفها عن مقهى حسن عجمي بسبب مشادة كلامية وقعت مع صاحب المقهى حول ديون الشاعر مردان وأصحابه من الشايات.

مقهى حسن عجمي اشتهر باعتباره مقهى للأدباء العراقيين منذ الثلاثينات من القرن الماضي، ويمتد عمره لقرن كامل، وتحل في هذه الأيام الذكرى المئوية لافتتاحه، كان افتتاحه في عام 1917 بعد توسيع شارع الرشيد من قبل الوالي العثماني خليل باشا في عام 1910. ومن رواده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، الذي ذكره في مذكراته بجزأيها، وكان من رواده منذ عام 1926 وبقي كذلك حتى بعد أن صار نائباً في مجلس النواب العراقي في العامين 1947 و1948.

مقهى حسن عجمي اشتهر باعتباره مقهى للأدباء العراقيين منذ الثلاثينات من القرن الماضي، ويمتد عمره إلى قرن كامل
المقهى الذي كان يفرشه صاحبه حسن عجمي -أبوفلح- ويغطي جدرانه الداخلية بالسجاد الكاشان، ويمنع فيه لعبة الطاولة لكي لا تؤذي أصوات قطعها الزبائن، بدا في عام 2017 متهالكاً وخَرِباً يكاد ينهار على رواده. انتفخت جدرانه بفعل الرطوبة. وامتلأ المكان برائحة عفونة مقززة، وأدخنة النرجيلات والسجائر، وغطيت بوابته الرئيسية ببطانية قديمة بطريقة بدائية، لمنع الرياح الباردة من مضايقة الزبائن -كان للمقهى في الثمانينات من القرن الماضي باب زجاجي يغلق ذاتياً-.

غادر الأدباء المقهى إلى أماكن أخرى، ومعظم زبائنه اليوم من المتقاعدين، وأصحاب البسطات، الذين ألفوا المكان، واعتادوا تدخين نرجيلاتهم وتناول شايهم الثقيل فيه.

كان المقهى التراثي البغدادي في عصره الذهبي خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وحتى التسعينات يغص بأدباء بغداد والقادمين من المحافظات لقضاء شؤونهم في العاصمة. رواده من الشعراء السياب والبياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف، وارتاده قصاصون كيوسف الحيدري -توفي فوق إحدى مصطباته بسكتة قلبية في عام 1993- ومحمد شاكر السبع وموسى كريدي وحنون مجيد وحسب الله يحيى، وروائيون كفؤاد التكرلي وعبدالخالق الركابي وعبدالستار ناصر وأحمد خلف، وشعراء كسامي مهدي وأديب كمال الدين وعدنان الصائغ ومعد الجبوري.
انهيار وشيك

لم يبق من المقهى سوى اسم صاحبه حسن عجمي، الذي توفي في الخمسينات من القرن الماضي تاركاً إرثاً ثقافياً يُذكّر بقامات أدبية عراقية شامخة ترددت كلماتها بين جدرانه. واقترن اسم المقهى بأغلب إبداعاتهم الشعرية كقصيدة “المقصورة” التي كتب الجواهري الكبير نصفها في هذا المقهى، والنصف الآخر كتبه في بيته قريباً من دجلة. وكتب محمود البريكان القسم الأول من قصيدته “حارس الفنار” كما أخبرنا يوماً حين زرناه أنا والشاعر عبدالخالق محمود في مكتبه بكلية التربية، التي كان يعمل فيها أستاذاً في الثمانينات من القرن العشرين.

يعتقد البعض خطأ أنَّ صاحب المقهى أبوداود، الذي توفي في عام 2003، وهو صاحب الشاربين الكثين و”الجراوية” الشهيرة، التي يعتمرها أثناء خدمته للزبائن. وأبوداود في الحقيقة لم يكن سوى عامل يومي في المقهى. ولكن من ملك المقهى بعد حسن عجمي تزوج ابنته. فكانت لأبي داود هيمنة في المقهى، ولذلك كان يخشاه أغلب رواد المقهى.

ومن ضمن هؤلاء طليعة الشعراء الصعاليك، الذين ظهروا في الثمانينات من القرن العشرين كرد فعل على التغييرات الاجتماعية والاقتصادية في العراق، كجان دمو ونصيف الناصري وكزار حنتوش. وكانوا في موضع ريبة دائمة من قبل أبي داود، لأنَّهم في أغلب الأوقات لا يملكون ثمن ما يطلبونه من شاي. وكانوا بدورهم لا يخشون شيئاً في الدنيا غير نظرات أبي داود المتفرسة، التي تنفذ إلى أعماقهم.

مقهى حسن عجمي التراثي سينهار قريباً بلا أدنى شك، ومع انهياره الوشيك ستنسى حكايات وذكريات لأجيال من الأدباء العراقيين، مروا جميعاً إلى الشهرة، وتركوا ذكرياتهم فيه منذ مئة عام إلى يومنا الحالي.

أمانة العاصمة في العراق عاجزة عن أي فعل بدعوى أنَّ المقهى تابع للوقف، ومالكه الحالي لا يجد المردودات المالية الكافية، التي تعينه على إحداث الإصلاحات الضرورية لتقوية الجدران بطريقة الحقن. ولم تبق أمام المثقفين العراقيين إلا مناشدة اليونسكو، باعتبار المقهى إرثاً ثقافياً عالمياً ينبغي المحافظة عليه، ومناشدة الجهات الدولية، المعنية بالتراث الثقافي والإنساني، الضغط على الحكومة العراقية، لصيانته والمحافظة عليه.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى