ثنائية الدين والسياسة في ‘مقصلة الحالم’ و’أفاعي النار’

د. خولة شخاترة
السياسة في رواية الكاتب الأردني جلال برجس “مقصلة الحالم” حاضرة بامتياز فالسارد يساري يحلم بالتغييريحلم بمجتمع يسود فيه الحرية والمساواة والعدالة، ومثقف تظهر ثقافته من خلال حواراته العميقة واطلاعه الواسع واستماعه للموسيقى الكلاسيكية.. يروي تجربتة في سجن صحراوي ناء لمدة عشرين سمة بسبب وشاية افقدته مرحلة طويلة وهامة من حياته حولته إلى انسان آخر، اعتزل الناس والمجتمع لمدة طويلة.

والسارد يروي تجربته ورفاقه في السجن وتفاصيل أخرى من حياته عبرالاستعادة والتذكرلأزمنة متعددة من حياته، من الحاضر إلى الطفولة إلى الاعتقال إلى الاعتزال مع توظيف أدوات جديدة في الكتابة منها الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ من خلال هذا العالم اتجهت الرواية باتجاه آخر ربطت الماضي بالحاضر الاعتزال الاختياري بالسجن القسري ثم الانكشاف بمعرفة من كان سببا في كل هذا دون إغفال للبعد الإنساني للمعتقلين: لحظات ضعفهم، وانهيار إرادتهم التي تصل حد العجز وتوقهم للتواصل مع الجنس الآخر.

والسؤال الذي يلح على القارئ لماذا؟ لماذا هذا الاحتجاز؟ ولماذا هدر الكرامة؟ ولماذا اهدار هذه الطاقات وحجزها في السجن لمدة 20 سنة؟ واذا كانت “مقصلة الحالم” حاولت أن تتبين التغيرات والتحولات التي طالت عمان ومادبا.. وتتعمق فيها وأظهرت أن التطور الظاهرعلى السطح ما هو الا قشرة خارجية لا تقترب من العمق، وإنما تطور مشوه اشعره بالاغتراب تجاه هذا المجتمع فاعتزل في جبل نيبو للانتهاء من كتابة روايته… فإن رواية برجس الأخرى “أفاعي النار” حاولت أن تتعمق في الظاهرة الدينية والتطرف والتعصب في المجتمع وكيف تحول المجتمع من متسامح إلى حد ما إلى مجتمع يرفض الآخر، وينظر إلى المرأة نظرة سلبية، ويشيع ثقافة الموت وعذاب القبر.

فالرواية صراع بين التنوير والجهل بين التحليل العلمي والخرافة والشعوذة، يحاول فيه أعداء الحياة فرض نمط حياة مغاير ولا تعني المغايرة أنها أفضل: حياة فيها الكثير من الاقصاء لكل من يحاول أن يقوم بدور تنويري أو أي محاولة للنهوض بالمجمتع عن طريق العلم والثقافة، وكان ضحيتهم علي ابن القصاد، الاسم الذي تصدر العنوان الفرعي للرواية، الذي عوقب بالحرق لثلاث مرات:

في المدينة حين كان يعمل مدرساً وقد حدث ذلك على يد المتشدد سليم المشاي والذي يشير إلى بداية ظهور التطرف الديني في الاردن، اذ استنكر المشاي حق النساء في التعليم، واستنكر ما حدث من حب بين ابن القصاد و بارعة التي كانت طالبة آنذاك. وما سليم المشاي إلا ممثلاً لطبقة دينية حرمت ما هو غير محرما لكنه نجا وعجل بسفره إلى فرنسا لإكمال الدراسات العليا بالفلسفة.

في فرنسا حيث كان استاذاً في السوروبون، وقد حدث ذلك على يد يوسف النداح غريمه الذي فشل بالتواصل الحميمي مع زوجته بارعة المثقفة الواعية التي أحبت ذات يوم ابن القصاد استاذها بالمدرسة، وتعلمت على يديه فكانت قارئة محترفة وكاتبة للقصة.

انضم زوجها لجماعة ارهابية ولكنه حينما نفذ تلك العملية نفذها تحقيقا لرغبة الجماعة التي غضبت من طروحات ابن القصاد حول مفهومي العيب والحرام، وانتقاماً منه كون بارعة بقيت على حب ابن القصاد.

فالتقت دوافع الانتقام الشخصية للغريم الذي تقدم طواعية لتنفيذ الهجوم مع دوافع الجماعات التي هددته بعد نشره الكثير من المقالات وكتاب عن “العيب والحرام” إضافة إلى محاضراته بالسوربون فأحرق منزله وتشوه جسده وتغيرت ملامحه فلم يعد ابن القصاد بل أصبح شخصا أقرب للمسخ منه إلى الإنسان على الرغم من كل مراحل العلاج.

في القرية وبعد أن عاد إليها مشوهاً، وذلك على يد جماعة محمد القميحي الذي فشل في التواصل مع زوجته لمعة القارئة المنفتحة التي تربت على التسامح والجرأة والحرية والذي يمثل فكر بعض من عادوا من قتال السوفييت في أفغانستان، إذ رأى هو وجماعته أن ما يشيعه ابن القصاد من وعي تنويري لا يتوافق مع القرية التي اعتنقت نهج القميحي في التفكير والتكفير، هذا من جهة ومن جهة أخرى، الحب الذي تكنه طليقته لمعة لابن القصاد، وكان الطلاق الذي رمز للتنويري الذي لم يتوافق مع الظلامي، لقد حاول أن يغير بعد إلحاح من لمعة التي طلبت منه القيام بدورما تجاه ما يحدث، أن يوقفه على الأقل، فحاول أن يسحب البساط من تحت هذه الجماعات وكل من تتقاطع مصلحته مع أهداف هذه الجماعات.

واذا كان السارد في مقصلة الحالم قد عاد بعد 20 سنة من السجن فإن ابن القصاد عاد بعد 15 سنة هربا من بلده وذهل في الحالتين من التغييرات التي حدثت وغيرت المجتمع وشوهته الذي ظهر في مقصلة الحالم وربما هذا التشوه كان سببا بظهور الإرهاب والتشدد والتعصب فأقصت كل صوت متسامح وتنويري وأظهرت الرواية أن التعصب ليس ندا للتنوير ولا يملك القدرة على الحوار، وإنما الاتهام ولا شيء غيره.

لم يكن جلال برجس يكتب دعاوى أو مواعظ أو رغبة بركوب موجة بالسباحة مع التيار والحديث عن موضة الإرهاب، بل قدم بنى روائية مختلفة بطريقة أو أخرى، في مقصلة الحالم تتناوب الأزمنة والأمكنة وحوار الشخصيات التي تتجاور مع الحوارات الفيسبوكية مع الحلم مع ظهور صوت الذئب الذي ينم عن حالة ما سواء أكان في السجن الصحراوي أم صوت الذئب الذي يعبر عن ذاته وهو خارج السجن.
إن رواية “مقصلة الحالم” بمعنى آخر نسيج محكم تظهر فيها الثقافة العالية واللغة الشعرية التي لم تفقد الرواية روائيتها إن جاز التعبير، إضافة إلى الحوارات المعمقة والثرية التي تنبش بذاكرة الإنسان ولا وعيه.

أما في “أفاعي النار” فتحضر الرواية وتحضر الحكاية، يحضر السارد في الرواية وتحضر الحكاءة (الوجه الآخر لشهرزاد) التي روت حكاية ابن القصاد بعد أن ضاعت في حادثة حرق كمبيوتر كان يحفظ النسخة الوحيدة من الرواية.

لقد كانت اغفاءة السارد تحت الشجرة تذكر بأليس في بلاد العجائب فاستحضر صورة الحكاءة بارعة التي تملك ملامح والدته وفي الوقت ذاته قدرة بارعة على كتابة القصص فقدم لنا جلال برجس روايته ورؤيته لا بل حكاية ابن القصاد ورواية أفاعي النار.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى