الشعر والنثر: من الإجماع الكاذب إلى مضايق الأخلاق

عبد اللطيف الوراري

أثار تراثنا النقدي والبلاغي قضايا نظرية ومعرفية عبر تاريخه، ولعلّ أهمها وأدعاها للنظر قضية الشعر والنثر. فإلى جانب التباس حدّيْهما، وسجنهما في ثنائية على طرفي نقيض، لم تعدم العلاقة المتوتّرة بينهما أصلاً داخل الخطاب، من صراع العلماء بين مُنْتصرٍ لهذا الطرف أو ذاك. فقد كانت المشكلات النظرية والسياسية للكتابة وتاريخيّتها يرتدُّ معظمها إلى هذا التقابل، ليس في تاريخنا الثقافي حسب، بل حتى في تاريخ ثقافات ثانية، بما فيها الثقافة الأوروبية مثلما يُشير إلى ذلك هنري ميشونيك. فالتقابل بين النثر والشعر يكشف عن نفسه في ثلاثة معالم : البيت الشعري، الـ»صورة» والتخييل، بما هي معايير استعمالية. الأوّل الذي يُعرِّف الشعر من خلال البيت والإيقاع من خلال الوزن يجعل النّثْر تالياً؛ ويُميّز الآخر الشعر من خلال الصُّورة، فيما يكون النثر معقولية وتَمْثيلاً ذهنيّاً. وفي كلتا الحالتين، يكون الشعر مُركَّزاً عليه: النثر هو ما دون الإيقاع، وما دون الصورة. بينما النثر يكون مُركَّزاً عليه في مهيمنة التخييل فحسب، والشعر بخلافه، وذلك وفق المقولات الجارية.

الاحتفاء بالشعر:

كان يقصد بالشعر «الكلام الموزون المقفّى»، من البداية، وبلا التواءٍ ولَبْس. كانت الذاكرة الثقافية التي استقرّت مع الوقت، لا تقبل شيئاً اسمه الشعر خارج هذا الحدّ. إجماعٌ متواضع عليه. الأعمال الأساسيّة، الشروحات، القواميس، الكتيبات والحواشي كلّها يقول بهذا، ونادراً ما تجد وَمْضةً تبرقُ خارج الإجماع. ففي التعريفات التي أُعطيت للشعر، وهي ليست بالتنوُّع المفترض، تؤكّد على عنصر الوزن، الذي بدا المعيار الأساسي المختصّ بالتأمين على الشعر وعزله عمّا ليس شعراً. نعثر على هذا الوعي يتشكّل بموازاةٍ مع الوعي بالشكل الشعري وتشكُّل عناصر بنائه.
لقد قرّ في وعي العلماء بالشعر ما للوزن والقافية من قيمة راسخة لا غنى عنهما في بناء الشعر، حتى صارالوزن أعظم أركان حدّ الشعر، وصارت القافية حوافر الشعر وفضيلة مختصّة بلسان العرب، وبالتالي لم تخْلُ التعاريف الأولى التي وضعوها لتحديد الشعر من عنصري الوزن والقافية، بل أكّدوا أسبقيّتهما فيه، وذلك بدءاً من تعريف قدامة بن جعفر الأشهر. ولولا جهود الخليل بن أحمد نفسه لما كان لذينك العنصرين هذه المنزلة كلّها، بسبب ما أتاحه نظامه العروضي من زخمٍ نظريٍّ ونقاشٍ منهجيٍّ ومعرفيٍّ سيكون لهما، بالضرورة، شأْنٌ جليلٌ في العلم بالشعر العربي وصناعته، لأحقابٍ طويلة.
ولم يكن عمل العلماء من بلاغيّين ولغويّين ونُقّاد بالسهل، وهم ينقلون اهتمامهم من حاصل المعرفة بالعروض الذي يهتمُّ بالوزن المجرَّد القائم على أنساق زمنية معلومة، إلى تدشين المعرفة بالإيقاع وأحواله، بعد الذي رأوه من انتظام المستوى الصوتي وتردّده بكيفيّات مطَّردة لافتة. ومع ذلك، فقد كانت آلة الوصف مُتخلّفةً عن آلة العروض المعيارية؛ إذ تراوحت بين الانفعال الآني والإشارة المقتضبة دونما عناء بحث، وإن كان كثيرٌ ممّا أطلقته من الأمثلة والأقوال والنعوت يُشير إلى مناحٍ من القيم الصوتية التي اختصَّ بها الشعر العربي وألحَّ عليها في زمنٍ كان فيه الاحتكام إلى السمع من واقع الثقافة الشفوية.

لا هو نثر ولا هو شعر:

في سياق ما تُطالعنا به التعريفات، كان التفريق بين الشعر والنثر يقوم على أساس الوزن، والنظام الإيقاعي بالتالي. وفي مقابل ذلك، كان علماء القرآن وبلاغيّوه ينحون بالقرآن إلى المتعالي والمعجز، فلم يُسمّوه لا نثراً ولا شعراً، وإن كانا يتجاوبان معه كنصٍّ في مناحٍ كثيرة، وعبر جماليّات اللغة التي نزل بها. إن تحرُّج هؤلاء العلماء من السجع، وريبتهم غير المبرَّرة من أن يُشبَّه القرآن بالشعر، ومطاعنهم غير المعلنة في الشعر نفسه لمجرّد أنه موزون مقفّى «يُتلهّى به»، ورَبْطهم الإيقاع بـ»الملاهي»، قد جعل مباحثَ قيّمةً وقادرةً على تحليل المرجأ وغير المفكّر تأخذ المنحى الذي سارت فيه ولم تخرج عنه في دوّامة الشرح والنقل. كان الشعر هو الشعر، والنثر هو النثر، والقرآن ليس شعراً، وليس نثراً. من هنا، جرى الكلام العربي مطلقاً على ثلاثة أنواع : قرآن ، نثر، شعر، فليس القرآن شعراً وإن استعمل بعضاً من آليات الشعر، ولا نثراً وإن استعمل جميع أساليب النثر عند العرب.
ولقد توجّه جزء مهمّ من البحوث الإعجازية إلى الاهتمام بـ«نظم القرآن»، منذ أن وضع الجاحظ كتاباً بهذا الاسم، وذلك لبيان كون النّظْم مُعجزاً يتوقّف على بيان نظم الكلام، ثُمّ بيان أنّ هذا النّظْم مُخالفٌ لنظم ما عداه. وكان من أوائل من تصدّى للنظم في القرآن هو أبو سليمان الخطابي الذي بادر إلى القول بأنّ وَجْهاً من إعجاز القرآن يعود إلى جهة البلاغة؛ حيث توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع، وهشاشة في النفس، لا يوجد مثلها لغيره، ولكن «لا يوقف لشيْءٍ من ذلك على علّةٍ»، أو أنّه «إشكالٌ أُحيل على إبهام» حسب عبارته الشهيرة.
كان الارتياب الذي أُخِذ به السجع بسبب الاتّهامات التي وُجّهت إلى النبي الكريم، مدعوماً بآليات أخرى أكثر تعقيداً، تمثلت في استعمال القرآن لنثر- سواء اعتمدناه سجعاً أو لا- يلعب فيه الإيقاع والترديدات الصوتية دوراً كبيراً. وبموازاةٍ مع ذلك، أعادت عقيدة الإعجاز طرح نموذج للتعبير، والإعلان عن فشل أيّ محاولة لمعارضة أسـلوب القرآن. فقد اتخذ السجع في القرآن وسائل خالفت الأصل والقياس في اللغة، رعاية للفاصلة من حيث الإيقاع الصوتي أوّلاً، ثُمّ لما تحدثه هذه الصورة الصوتية من إيحاءات لها أثرها الدلالي والنفسي المفترض، وهو ما سوف يتصدّى له جيل ثانٍ من العلماء، كرّسوا جهدهم للبحث في «إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل»، بتعبير الإمام الزركشي. غير أن الموقف المبدئي من المكوّن الصوتي والسالب لفاعليّاته الإيقاعية، الذي أبداه – بنسب مختلفة – كلٌّ من الخطابي والرماني والباقلاني، قد تعاظم مع عبد القاهر الجرجاني وهو يقيم مفهومه للنّظم داخل نظريّة المعنى التي نشأت من استراتيجيّات البحث الإعجازي وطوّرها، فأزاح كلَّ ما له علاقة بالإيقاع، وذمّ الوزن.
يكشف عبد القاهر تحرُّجه من الإيقاع وذمّه له، فلا حظَّ للوزن من البلاغة في شيء، وبالتالي فكلَّ دالّ من جملة دوالّ البناء الصوتي ـ الإيقاعي ممّا ينتظم الكلام إيقاعيّاً، هو مُجرّد حلية، هيئة صورية، وخارج دائرة الفصاحة، وخارج مسار إنتاج المعنى: السجع، التجنيس والوزن. ولهذا نفهم لماذا كان يعرض لهذا العناصر التي احتفى بها الشعر العربي واختصّت بها بنيته، في سياق السّلْب. لا قيمة للمكوّن الصوتي داخل نظريّته في النظم المدعومة بالمنظور الإعجازي، المتعالي وغير القابل للمحاكاة والقياس.
ونظراً للتمايز المتحدي الذي اتَّصف به أسلوبه، ليس للشعر فحسب، وإنّما لجميع أساليب القول النثري، فقد أصبح القرآن بمبعدةٍ عن التقليد ومحاولة العرب النسج على منواله أو التطلُّع لمجاراته والاحتذاء به، لأنّ «حواجز القدسية والإعجاز» – بتعبير علوي الهاشمي- صرفتهم عن ذلك. ومن ثمة، كان الكلام العربي، إلى عصْرٍ تأخّر مع ابن خلدون، يجري على فنّيْن: فنّ الشعر والمنظوم وهو الكلام الموزون المقفّى، وفنّ النثر وهو الكلام غير الموزون. لكن، مع ذلك، لم تكن أوضاع التلقّي للأدب والثقافة ثابتة، بل تعرّضت لتحوُّلٍ جماليٍّ نتيجة صعود أنماط كتابيّة جديدة مثل أدب الرسائل والخطب من جملة بلاغات النثر التي تنافس فيها الكتّاب والمتأدّبون، بموازاةٍ مع استجداد قضايا عقليّة، ودينيّة، وفلسفيّة وسياسيّة ابتداءً من أيّام بني العبَّاس وعصرهم الزاخر. فلم تعد المفاضلة بين الشعر والنثر بمقاييس التصنيف والرؤية نفسها، ولم يعد الشعر يحظى بأولويّة، بل نافسَ النثرُ الشعرَ، وبزّ الكاتبُ الشاعرَ في الصناعة، وفي فنّ الكتابة.

رعب النثر في الآداب:

كان التخلّص من هيمنة الشعر يتم تدريجيّاً، فضلاً عن حاجةٍ لإعادة تحديد ما يُسمّى شعراً، وبالتالي بيان الفرق بينه وبين النثر، في النوع وليس في الدرجة فقط. هذه الحاجة بدأنا نكتشفها ابتداءً من «عيار الشعر»، قبل أن تعبّر عن نفسها بقوّة في «المثل السائر»، غداة بدا للجميع أنّ الشعر، بالفعل، يتراجع ويتنازل عن بعض سلطانه ووظائفه للكتابات الجديدة، تحت الإشعاع المُغْوي الذي أشاعته كتابات المترسِّلين تحديداً. وقد أجمع معظم من تصدّى لمسألة العلاقة بين الشعر والنثر على أنّ النظم وقف على الأوّل دون الثاني، وأنّ كلّاً منهما صناعة وفنّ قائم الذّات. لكن الحدود بينهما لم تكن صارمة كما يفترض فيهما كجنسين، فالنثر الممثّل بالترسُّل والخطابة، غداة الاهتمام بالبديعيّات وأساليب تحسين اللغة، بدا أكثر قُرْباً من الشعر، من الإيقاع في الشعر، ولا يفرّقه من المنظوم غير الوزن، الفارق الوحيد بين الشعر والنثر.
صار النثرُ قسيمَ الشّعر في النتاج الثقافي، وظهرت سلطة موازية في القراءة تُعيد ترتيب المكتوب وأولويّاته، نكتشفها في كتابات مقطعيّة، حوارية وبديعيّة. في «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي، نعثر على نقاشات معاصريه الجادّة التي لم يخْلُ يعضها من طابعه الفلسفي والأخلاقي، وهي تتصدّى لمشكلة العلاقة بين الشعر والنثر أو المفاضلة بينهما.
ويكشف لنا التنازع الذي كان يتمُّ بين أصحاب الشعر وأصحاب النثر عن رغبة صريحة في الإجابة عن مشكلات الكتابة عموماً، وبالتالي تجاوز أولويّة الوزن الملتبس بالإيقاع. لكنّ السجال كان يتحوّل، في مرّات كثيرة، إلى ميدان لتبادل الاتّهامات من منظورٍ أخلاقيٍّ تدخّلت فيه عوامل سياسية وسوسيوثقافية، يقول بانحطاط رتبة الشعر عن الكلام المنثور، أو العكس. لكن الانحطاط كان يتعدّاهما أصلًا ليشمل العقل المبدع نفسه ويحجر عليه لقرون طويلة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى