«يتيمة» للفرنسي أرنو دي باليير: شخصية واحدة وأربع حكايات من الطفولة إلى السجن

سليم البيك: يمكن لحكاية فيلم «يتيمة»، ذاتها، أن تُروى بتراتب زمني، مبتدئاً بالأقدم، منذ كانت الشخصية الرئيسية فيه طفلة، إلى الأحدث، كمراهقة ابنة 16 عاماً، ثم 20 عاما، ثم امرأة تعمل كمديرة لمدرسة. وهي مراحل أربع في الفيلم لشخصيته الرئيسية، يرويها كل على حدة.
يمكن للحكاية أن تبدأ بالأقدم وتتقدم زمانياً، إلا أنها بذلك ستفقد الميزة الأهم في الفيلم، وهي رواية حكاية امرأة بالشكل المقلوب، من النتيجة إلى السبب.
والفيلم بذلك يبدأ بالمديرة راجعاً بالزمـــــن إلى الطفلة، لا يسعى إلى التراتب التقليدي للحكــــي: الحدث ونتيجته، بل إلى تراتب تبدع فيه السينما وهو الحدث ومسببه. إذ نشاهد أحداثاً ونرجع مع كل مرحلة زمانية للشخصية إلى مسببات تُفهمنا، مثلاً، لمَ اقتحمت الشرطة بيت رينيه، المديـــرة، تسألها إن كان اسمها كارين، وتبقــى الامرأة صامتة أمامـــــهم وأمام رد زوجـــــها عليهم بأنها ليست كارين وأنها رينيه وهي مديرة في مدرسة، لتجيب أخيراً بأنها هي، فيتم اعتقالها، وتبدأ الحكاية من هنا، أو يبدأ الفيلم بتصوير سيرة كارين/رينيه التي أوصلتها إلى هنا.
هي حكاية طفلة في الريف الفرنسي، تتعرض لصدمة حادث حين كانت وأطفال آخرون يلعبون الغمّيضة، واسمها كيكي، تصير كيكي كارين، مراهقة تتنقل من عشيق لآخر وناد ليلي لآخر، تنام في العراء وتتردد إلى مراكز الشرطة، تكبر قليلاً لتغيّر اسمها إلى ساندرا، ابنة عشرين عاماً، انتقلت إلى باريس، بانحرافات متطوّرة عن سابقتها، حين كانت مراهقة، تشمل سرقة مبالغ كبيرة بعمل منظّم ومصاحبة سرّاقين كبار، بعد أعوام يصير اسمها رينيه، امرأة راكزة ومديرة مدرسة تحاول القطع مع حياتها السابقة، لها حياتها المستقرة مهنياً وعاطفياً، إذ تسعى لبناء أسرة مع حبيبها، وذلك إلى أن تطرق الشرطة على باب بيتها، ويبدأ الفيلم برواية قصّتها مقلوبة.
لدينا هنا أربع مراحل زمانية تتميز بشخصياتها الرئيسية، وهي هنا شخصية واحدة، أو امرأة واحدة بتصويرات مختلفة: كيكي وكارين وساندرا ورينيه: الطفلة البريئة، والمراهقة اللعوب، والسارقة المحترفة، والمديرة الراكزة. وكل من هذه التصويرات الأربعة منفصلة عن الأخرى حكائياً كما هي متصلة، إذ يمكن أن تكون جميعها أفلاماً قصيرة تجمّعت لتحكي حكاية واحدة، كما يمكن أن تحكي كل منها حكايتها المنفصلة، ولا تتداخل في ما بينها، فلكل منها بداية ونهاية تحملهما اللقطتان الأولى والأخيرة والموسيقى المصاحبة. والحركة والحدث يكشفان أننا في بداية مرحلة (أو فيلم قصير) جديدة منفصلة عن سابقتها، وأتت لتكشف بعض الغموض في تلك السابقة، وذلك تحديداً في العرض الأولي لكل مرحلة، لأن الفيلم، لاحقاً، بعد عرض المراحل الأربع، سيصل إلى نصف الساعة الأخير ويتنقل بين المراحل الزمانية ليصل أخيراً إلى المرحلة الأخيرة، أي إلى المديرة التي تم اعتقالها، وهي في السجن، ستكون حاملاً بطفل، وسيقرّران هي وزوجها، أو هو تحديداً، ما سيفعلانه قبل جلسة المحاكمة، وقد خرجت من السجن.
هذه المراحل الأربع، كل منها مبنية على شخصيتها الرئيسية، لكل منها حكايتها الصغيرة، أو التفصيل الصغير في عموم حكاية كارين (هو اسمها الحقيقي)، في كل منها الذروة الخاصة بها، بحكايتها، واللافت أكثر أن لكل منها ممثلتها الخاصة، إذ لجأ مخرج الفيلم إلى أربع ممثلات من بينهن الفرنسيتان: أديل إكزارشوبولس التي رأيناها في أفلام عدة أشهرها «حياة أديل»، وقد أدت دور ساندرا، وأديل أنيل التي رأيناها في أفلام آخرها «الفتاة المجهولة».
هذا الفصل بين المراحل الزمانية في حياة الشخصية الرئيسية، والفصل والربط بينها بهذا الأسلوب، ثم تصوير الحكاية بالشكل المقلوب زمانياً كذلك، هو ما ميز الفيلم، وما أضاف مثالاً جيّداً للفكرة القائلة بأن الحكاية هي أسلوبها وليس أحداثها.
الفيلم (Orpheline) للمخرج الفرنسي أرنو دي باليير، صاحب «عصر النهوض: أسطورة مايكل كوهلاس»، تم عرضه في مهرجان تورونتو السينمائي الأخير، ويُعرض حالياً في الصالات الفرنسية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى