شريف حتاتة يواصل خوض معارك «العالم البديل»

(محمود قرني)

عندما طالعت جانباً من سيرة الفيلسوف النمسوي كارل بوبر وكيف ساهمت مداخلاته وأبحاثه في إنقاذ أوروبا من هلوسات نهاية التاريخ ومن أطروحات شبنغلر وغيره عن أفول أوروبا والانهيار الوشيك للحضارة الغربية، تذكرت الكاتب والمناضل المصري شريف حتاتة وكتابه «معارك العالم البديل» (دار روافد). فقد قضى بوبر أكثر من خمسين عاماً في شقة صغيرة لم يشاهد فيها التلفزيون مرة واحدة ولم يترك نفسه لأية ملذات قد تصرفه عن أبحاثه، وظل حتى رحيله واحداً من أهم وآخر التنويريين في عالمنا المعاصر. أما شريف حتاتة فقد قضى نحو 15 سنة في السجون بتهمة «الشيوعية»، بعد أن ترك متاع أسرته الإقطاعية لينخرط في صفوف مناضلين من العمال والفلاحين والقادة الحركيين، حالماً بعالم يسوده العدل وتؤمه الحرية والمساواة. وإذا كان كارل بوبر قد عاش 92 سنة ظل على مدارها واحداً من أغزر المنتجين في مجال فلسفة العلم ووجد في نهاية الأمر من يقدرون جانباً من جهده، فحصل على الكثير من الجوائز والنياشين ثم منحته الحكومة البريطانية لقب سير في عام 1965، فإن شريف حتاتة الذي بلغ الرابعة والتسعين من عمره مازال يصدر الرواية تلو الأخرى والكتاب تلو الآخر من دون أن يلفت ذلك حكومة أو وزارة أو صحيفة أو هيئة في مصر والعالم العربي تُعنى بنشر أعماله، فيما هناك أطنان من الأوراق تُهرق عليها أحبار لا تثمن شيئاً. فالرجل الذي يعيش في شقة متواضعة في مدينة صغيرة جنوب غربي القاهرة بحوالى أربعين كيلو متراً، أصبح في الآونة الأخيرة غير قادر غالباً من التنقل من دون كرسيه المتحرك، وهو كرسي، بطبيعة الحال، لا تقف خلفه دولة، بل تقف خلفه سيدة مخلصة ومثقفة محترمة اسمها أمل الجمل، تلك الشابة التي أحبته فتزوجته بعد أن غربت وسامته، عقب حياة زوجية طويلة وفريدة جمعته بالكاتبة نوال السعداوي.
ليس ثمة سعي لعقد مقارنة بين بوبر وحتاتة، بين تقدير أو سوء تقدير نظام اجتماعي وسياسي لمفكريه وكتابه. فثمة فوارق بعيدة المنال بين الرجلين. فالأول يتناسل من المنطق العلمي ويؤسس لعقل يتجاوز الطوباوية الأثينية كما يتجاوز اللاهوت المسيحي بدرجة صادمة كما يهاجم بضراوة هؤلاء المفكرين الذي انحدروا من الهيغلية وجدلها التاريخي. والثاني يترك للفن متسعاً لإعادة صوغ حياته المنضبطة التي يراها ضاعت هباءً في ظل عزلة فرضتها عليه بيئة تملك الكثير من التمايزات الاجتماعية ويتعزز نفورها من العامة في شكل متصاعد. ولم يتبق للرجل من ذلك سوى انخراطه في العمل السياسي، بداية من حركة «حدتو»، مروراً بعضويته في المكتب السياسي لحزب التجمع ذي النزعة اليسارية وانتهاءً بأحزاب ما بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011. من هنا لم تأخذني دهشة الآخرين وهم يطالعون كتاباً رصيناً لشريف حتاتة تتجاوز صفحاته الأربعمئة من القطع الكبير، بينما يصارع عامه الرابع والتسعين. فإذا كان كتاب «النوافذ المفتوحة» قد أرَّخ لسيرته الشخصية فإن «حكايات العالم البديل» يؤرخ، على نحو دقيق، لمسيرته الفكرية، معتقداته، قراءاته، ومؤثرات محيطه السياسي والاجتماعي.
وعلى رغم موقفه الذي تغيَّر كثيراً إزاء الأدءات المختلة لليسار المصري خلال الثلاثين عاماً الماضية؛ فإن مواقف حتاتة الفكرية التي تبدت في مقالاته المطوَّلة في متن الكتاب لم تغاير الموقف اليساري في جملته من قضايا شبه جذرية مثل موقفه الرافض للـ «نيو ليبرالية» وهو موقف ينسحب على رأيه في فكرة التّشظي التي تسللت عبرها أفكار ما بعد الحداثة. يتبدى ذلك في رصده للتناقضات الجمَّة التي تباعد بين خطابيها النظري وتطبيقاته لدرجة جعلته يرى موقفها المناهض للعقائدية والأفكار الكبرى باعتباره عقائدياً في حد ذاته. كذلك يتبدى موقفه المناهض للأصولية وظاهرة التعصب، وهو في ذلك لم يتجاوز موقف اليسار من الربط بين الأصوليات التي تجمع الصهيونية بالإنجيلية الجديدة بالأصولية الإسلامية المدعومة غربياً. وهو موقف ينسحب على رؤيته لتيارات إسلامية رئيسة مثل موقفه من صعود حركة الإخوان المسلمين. سيتبدى أيضاً، في كتابه «معارك العالم البديل»، موقفه الرافض للرأسمالية وخصوصاً الرأسمالية متعدية الجنسيات، ما يفسر رفضه حصول جمعيات المجتمع المدني على تمويل أجنبي. وقد وجَّه حتاتة لوماً شديد القسوة لتيارات يسارية غيَّرت مواقفها من مسألة التمويل الأجنبي من دون أن تكون هناك تحولات ملموسة في الخطاب السياسي الغربي تدفع إلى مثل هذا التنازل. في المقابل؛ شهدنا الموقف الأكثر رشداً لحتاتة وهو يهاجم الكثير من التيارات السياسية التي عملت تحت مظلة جماعة «الإخوان المسلمين» واتخذت موقفها المحرض على الدولة، على غم مآخذه العميقة على الأداءات السياسية المختلة لكل القوى التي حكمت مصر منذ ثورتها الأولى حتى لحظتنا الراهنة. ولا يبدو ذلك الموقف بعيداً من موقفه الرافض للانسحاق شبه المطلق لتلك القوى أمام كومبرادور الرأسمالية العالمية، وهو موقف يبدو تمدداً طبيعياً لموقفه الرافض لمشروع «الفوضى الخلاقة» الذي عملت عليه واشنطن لزمن ليس قصيراً وتجسدت مآلاته في الانهيار شبه المطلق لأنظمة رئيسة في المنطقة.
لقد دفع شريف حتاتة أثماناً باهظة لكل الأفكار التي تضمنها كتابه «معارك العالم البديل»، وأظن أن تلك المسافة التي اتسعت يوماً بعد يوم بينه وبين النظام السياسي تبدو من أدق التعبيرات على ما يلاقيه من إهمال متعمد من المؤسسة الثقافية. ولعل العقاب الذي يلاقيه الرجل يؤكد واحدة من الظواهر التي تعزز القول بأن العقل الأمني الذي حكم الثقافة المصرية قبل ثورة كانون الثاني (يناير) هو الذي يحكمها حتى لحظتنا الراهنة. المفارق أن هؤلاء الذين يعاقبون شريف حتاتة، أقصد من يعاقبون أجمل ما فينا، يقدمون أنفسهم عادة على أنهم مناضلون ضد النظام السياسي في فجاجة تفتقر إلى أدنى الروادع الإنسانية والأخلاقية.
وإذا كان كارل بوبر يحتقر مثل هؤلاء الأدعياء الذين يدمنون تقديم خطابات متعالية وسمجة إلى عشيرتهم ومحيطهم الاجتماعي، فإن شريف حتاتة لم يفارق أبداً تلك الدعوة بالقول إن على الكاتب أن يقول كلاماً مفهوماً، أي لا يفارق الواقع، وإلا عليه أن يتحلى بالصمت. وقد أكد حتاتة في أكثر من موضع في كتابه أن مهمة المثقف باتت عسيرة في ظل خياناته الكبرى وفي ظل تعاليه وإقصائه لمن يتغنى بآلامهم. وهنا ستتقارب المسافة في شكل أكبر بين ما ينتهي إليه بوبر من أن الذات الإنسانية لن تحرر إلا من خلال المعرفة، وبين ما ينتهي إليه شريف حتاتة بأن الذات الإنسانية لن يحررها إلا العدل والمساواة والحرية. وتلك هي المسافة بين عقل المفكر وعقل السياسي، غير أن ثمة مقاربات أخرى أكثر أهمية تربط بين مفكر يناهض الاشتراكية وكاتب وسياسي يؤازرها. وعلى رغم أن كارل بوبر يبدو مؤمناً إيماناً مطلقاً بقضية العقل الخالص لدى كانط، ما انتهى به مدافعاً شرساً عن الليبرالية، فإن عشرات المقالات التي كتبها شريف حتاتة حول تعزيز فكرة الحرية الفردية عبر ضوابط تقوم على أنقاض أفكار ما قبل الدولة لهو أمر يقارب تلك المسافة بين رجلين قضيا حياتهما يدافعان عن إعادة الاعتبار لفكرة المسؤولية حتى لو اختلفا حول تعريفها.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى