فيلم «لا لا لاند»: قصّة واحدة عن الجاز لا تكفي

سليمان الحقيوي

بعد فيلم «ويبلاش» 2014. أيقن الجميع أن السينما ربحت مخرجا كبيرا اسمه داميان شازيل، فالشاب (32 عاما) أكّد في هذا العمل أنه يمتلك يد مخرج عبقري وقدرة كبيرة على إدارة طاقمه. يكفي أن نذكر أن الممثل جي. كي. سيمونز فاز معه بأهم الجوائز المعروفة فئة أفضل ممثل مساعد، بدءا بالغولدن غلوب وانتهاء بالأوسكار عن مشاركته في «ويبلاش»، وبالإضافة إلى شخصية المخرج، فقصّة «ويبلاش» قالت الكثير أيضا عن ولع شازيل بالجاز وجعلتنا نحس بأن حكاية واحدة عن هذه الموسيقى التي بدأت من شوارع نيو أورلينز لن تكون كافية لمخرج يفكر بالجاز ويكتب به ويتنفسه، بل سينجز عنه قصصا أخرى أكثر عمقا وقوة.
في فيلم ويبلاش يتساءل شازيل على لسان مدرّس الموسيقى تيرينس فليتشر قائلا: «أعتقد أن الناس لا يفهمون ماذا كنت أفعل في شيفر (مدرسة موسيقى) لم أكن هناك لأُعلّم أي أحمق كيف يرفع ذراعيه ويستمر في العزف. لقد كنت هناك لأدفع الناس لأبعد مما يعتقدون، إن هذا ضروري وإلاّ سنحرم العالم من لويس ارمسترونغ آخر وتشارلي باركر آخر». فليتشر كان يرى أن الجاز يموت لأن مستوى العازفين ضعيف وأن الناس يوجّهون لهم الإطراء الكاذب.
في فيلم «لالا لاند» يستمر شازيل في التنقيب داخل متاهات الجاز فيصل إلى قصة أخرى مشابهة عن أفول هذا الفن، لكن هذه المرة بعد أن عرفه العالم وأزال احتمال فشل فيلمه تحت مسوغات قد تعتبره مجرد شاب حالم. لم يترك المخرج أي ثانية تمر دون أن يجعلها تضيف إلى الفيلم شيئا يتعلق بالجاز. فيجعلنا نمرّ بسرعة لذكريات السنوات الذهبية لهذا اللون الموسيقي بعد تحويله لزحمة فوق جسر في جنوب كاليفورنيا إلى لوحة غنائية تشبه مسرحيات الرقص في سنوات الأربعينيات والخمسينيات. البداية فقط، تجعلك تتوقع طبيعة الفيلم وطريقه إليك، يجعلك تفتح نافذة الذكريات وتقول شكرا لمن فكر بتذكيرنا بهذا الزمن، ثم تبدأ قصّة الفيلم فالبطل (سيباستيان ويلدر) تمثيل رايان غوسلينغ عالق في هذه الزحمة والبطلة (ميا دولان) أداء إيما ستون عالقة أيضا هناك. هذا الثنائي سيلتقي لاحقا بطريقة هي أشبه بصدف أفلام وودي آلن.
الفن نفسه ساهم في لقائهما، ميا التي تعمل نادلة في مقهى تحلم بأن تصير ممثلة وسيباسيان يحلم بأن يؤسّس ناديه الخاص للجاز. الصدفة الأولى ستكون بمرور ميا بمحاذاة المطعم الذي يعزف به سيباستيان على البيانو. وبينما جذبتها موسيقاه وقرّرت الدخول لتحية العازف، كان هو يتلقى خطاب الطرد من عمله بعدما حذره صاحب المكان من الخروج عن برنامج المقطوعات المعدّة للعزف.. ميا تمدّ يدها للتحيّة وهو يتجاهلها وينصرف غاضبا. أما الصدفة الثانية فكانت في حفل يعزف فيه مع فرقة بينما تكون هي مدعوّة.. يلتقيان يتحدثان. ثم يُدخلنا المخرج في عالم من الخيال والرقص فتستمر هذه العلاقة على الوتيرة نفسها؛ اثنان محبان لبعضهما ومحبّان للفن يسهران ويشاهدان الأفلام ويلتقيان كثيرا. لكن ومثلما كان الفن سببا في الجمع بينهما كان أيضا سببا في فراقهما. ميا وبعد تجارب أداء كثيرة لم تفلح في الحصول على دور في أي فيلم، لكن بمنطق الصدف دائما وفي آخر مرة تعرض فيها مسرحية لها وتقرّر الابتعاد عن المسرح لأنها تعبت من دفع تكاليف المسرح وأداء المسرحيات على خشبة لا يراها أحد، لكن تحضر مع بضعة متفرجين آخرين إيمي براندت المسؤولة عن تجارب الأداء في فيلم ضخم وتتصل بميا لإخبارها بذلك. سيباستيان سيتحمل هنا مسؤولية نقل الرسالة كما كان عليه أيضا أن يقنع ميا بعدم التخلي عن حلم التمثيل والذهاب إلى باريس، رغم أن ذلك كان يعني الدفع بعيدا بالفتاة التي يحب.
استمرار شازيل بكتابة قصص أفلامه وأفلام غيره أكسبه مقدرة كبيرة على تجريب طرق مختلفة في العبث بمسارات الأحداث لصالح شخصياته وضدها أحيانا. فالزّمن لا معنى له في حساباته، نرجع إلى الماضي ونعود إلى الحاضر وتتحرّك الشخصيات داخل الفيلم وكأنها تسبح بدون قيود تربطها بالمكان ولا الزمان. حتى أهمية الأحداث لا يمكن إرجاعها كما في القصص التقليدية إلى أحداث مهمة وأخرى غير مهمة. الأحداث هنا كلها مهمة. الفيلم يحتفي بالفن في كل تأطيرات الكاميرا وزوايا التصوير تظهر أيضا براعة مدير التصوير لينوس ساندجرين الذي عمل أيضا في أفلام مهمة أخرى مثل «احتيال أمريكي» و«وجوي»… لكن ولأسباب معينة التقت نظرته بنظرة مخرج يرى في الإطار مناسبة لعرض فنون أخرى وجعله نافذة على التشكيل والمسرح.
«لالا لاند» ليس قصّة رثاء للجاز فقط، بل هي قصّة رثاء للفن في مستواه الرفيع شاهدنا مسارح بدون جمهور مع ميا. رثاء للسينما أيضا من خلال اختيار ممثلين بغض النظر عن موهبتهم، وتخلي سيباستيان عن الجاز الحقيقي مقابل الانضمام إلى فرقة موسيقية تعزف موسيقى مختلطة لا يقتنع بها، لكن انضمامه للفرقة كان يعني إيجاد عمل على الأقل. إحساس سيباستان بتفاهة ما يقوم به ظهر في المشهد الذي طلب فيه مصور الفرقة منه أن يعضّ على شفتيه ويرتدي قبعة لكي يلتقط له صورا ترويجية. شعور سيباستيان هنا هو شعور أي فنان تضطرّه الظروف إلى اختيار مسار فني تجاري على حساب الفن الحقيقي والاستقلال الذاتي في الرؤية والعمل، هو إحساس كل فنان لم يستطع إقناع الجمهور بفن حقيقي، لكنه سمع صرخات إعجابهم عندما تحوّل إلى مسار تافه في نظره وعظيم في نظر جمهوره.
«لالا لاند» أخذ مكانه ضمن أهم أفلام العام، والعقد أيضا، وربما هناك من سيعتبره أهم من ذلك وبعد أهم جوائز الغولدن غلوب التي حصدها وبعدها أهم جوائز الأوسكار. هو تقريبا، فيلم لا يقف وراء حدود معينة تسهّل تصنيفه، فهو خلطة تذيب داخلها الخيال والموسيقى والمسرح والدراما، هو امتصاص لعناصر القوة لكل هذه الثيمات وترويض لها. هو إيمان مخرج شاب بما يقوم به لإنجاز قصة تقول في النهاية عليك أن تؤمن بما تقوم به.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى