بعد خمسين كتابا قال الناقد: جاء دوري لأكون كاتبا

عواد علي

كالكثير من المبدعين العراقيين، يعيش الناقد سعيد الغانمي لاجئا منكفئا على مشروعه الثقافي بغرب أستراليا منذ خمسة عشر عاما، وصف نفسه، في أحد الحوارات الصحفية، قائلاً “أنا قارئ جيد. لا أعتبر نفسي كاتباً. سأعلن عن بداية مشروعي بعد أول خمسين كتاباً. حينئذ سأرقّي نفسي من درجة قارئ إلى درجة كاتب”.

حجة الغانمي، في نفي هذه الصفات عن نفسه، يأسه من وجود قرّاء عرب يقرأون ما يكتبه الكاتب والناقد والمترجم والمفكّر، فهؤلاء المشتغلون في إنتاج الفكر والأدب وغيرهما من العلوم الإنسانية يقتضون قرّاء، لذا فإنه “يرى نفسَه قارئا ليتخلّص من هذا الاقتضاء”.

وفي هذا السياق يقول “نحن نخطب في مقبرة، فمتى يتحقق الحلم بأن يصحوَ أحد الأموات ليسمعنا؟ نحن في مجتمع مقبرة، نخاطب أمواتا”. إلاّ أن ثمة ما يتعارض مع هذا اليأس حين يقول “انفتحت علي شهية الناشرين. صارت تأتيني تكليفات أكثر بكثير من طاقتي. أضع شروطاً صعبة، أو ما أتصوره شروطا صعبة، فيوافقون عليها. في معرض أبوظبي للكتاب عام 2007 فوجئت بكثرة ما تلقيته من طلبات من الناشرين العرب، بل من الناشرين الأجانب أيضاً. كنت أتصور نفسي إنساناً منسياً معتكفاً في أبعد نقطة في العالم”.
البنيوية والتأويل

يهتم سعيد الغانمي (المولود عام 1958) بقضايا ثقافية متنوعة ومتعددة، في الأدب والتاريخ والفلسفة والحضارة، وقد انشغل في بداية ثمانينات القرن الماضي، وهو طالب في قسم الترجمة بكلية الآداب، جامعة الموصل، بعلم اللغة، أو الألسنية، فكانت ثمرة ذلك أول كتاب له عنوانه “اللغة علما” (صدر في بغداد سنة 1986).

وفي هذا الصدد يقول “قادتني دراستي للغة مطلع الثمانينات إلى نظرية حول علاقة اللغة بالفكر. كنت أتصور أن الشعر يختلف عن الفكر المجرد في كونه يعتمد على الاستعارات والمطابقة بين الدال والمدلول، بينما يعتمد الفكر المجرد على الدال والمدلول. ويختلف الاثنان عن اللغة العلمية باستناد الأخيرة إلى الوقائع الحية المختبرية، المتحققة في الخارج. وبقيت هذه نظرتي باستمرار. لا أعطي لأي حقل معرفي أسبقية أو أفضلية على آخر. اللغة جهاز عملاق من الأبنية اللانهائية القائمة على أساس وحدات نهائية صغرى… تسمى الأصوات أو الفونيمات، وهذه الأصوات محدودة العدد، نادراً ما تزيد على الثلاثين أو الأربعين في أية لغة من اللغات. ولكن يمكن إعادة ترتيبها وتوزيعها لإنتاج تراكيب غير محدودة ولا نهائية. إنها أشبه بقطع ميكانو يمكن أن تكوِّن منها ما تريد، وتبعثرها وتكون أشياء جديدة أخرى”.

وفي السياق ذاته اتخذ الباحث من البنيوية منهجا في بداية مقارباته النقدية للنتاج الأدبي العراقي، فأصدر كتابين هما: “المعنى والكلمات” (1989)، و”أقنعة النص: قراءات نقدية في الأدب (1991). لكنه اتجه، بعدئذ، إلى المنهج التأويلي في قراءاته النقدية للنصوص العربية الحديثة والحكايات الموروثة، كما في كتابه “الكنز والتأويل: قراءات في الحكاية العربية”، وكذلك الحفر في التراث العربي بحثا عن نصوصه البائدة، كما في كتابَيه “ينابيع اللغة الأولى: مقدمة إلى الأدب العربي منذ أقدم عصوره حتى حقبة الحيرة التأسيسية” (2009)، و”كنوز وبار: الملحمة العربية الضائعة” (2011)، وذلك بموازاة ترجمته لكتب مهمة تُعنى بعلم اللغة والبلاغة والتأويل والفلسفة وثقافة العراق القديم والنظرية النقدية.

يكتشف الغانمي في كتابه “كنوز وبار” الملحمة العربية الضائعة، ويعيدها إلى الساحة الأدبية لنكتشف معه سر “ينابيع اللغة الأولى” التي قدّمت فرضية نظرية حول تكوين الملاحم القديمة مثل “ملحمة جلجامش” و”الإلياذة” و”الأوديسة” لهوميروس، وخلاصة هذه الملاحم أنها تتكون من وحدات أساسية تشكّل الملحمة، وترتكز حول ثيمات بعينها مثل ثيمة اختطاف حسناء، والاجتماع في وليمة، وهبوط حيوان مقدّس، وغزو مدينة، والبحث عن فردوس مفقود.

وقد بنى الغانمي ملحمته العربية من مجموع الحكايات التي تجمعت شفويا قبل الإسلام في حقبة الحيرة، كما يكتب في مقدمته. وكان لا بد للإسلام أن يعيد النظر في الأدب القديم ويصوغه من جديد لتطويعه في نظرته إلى العالم. وهكذا طويت هذه الحكايات. ويعود، في قلب حكايته، إلى الصراع الذي شجر بين الوثنية والتوحيد في الجزيرة، بين طفولة البشرية وتعدد خياراتها، وبين خيار الإله الواحد الأحد.
الخيال الأدبي

في سائر مقارباته التأويلية يطرح الغانمي أسئلة، ويعيد فهم الحكايات بما يجمع بين التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والنقد الأدبي، والخيال المبدع الذي يجعل القارئ شريكا في العمل الحكائي وما وراءه.

أما كتاب الغانمي “فاعلية الخيال الأدبي”، الفائز بجائزة الشيخ زايد، فينقسم إلى ثمانية فصول يدرس فيها: النظرية وأساسها اللغوي، وخاصية الأدب المعيش في ثقافة مبدأ الاسم، وديانة اللاهوت الطبيعي، وابتكار الملحمة: الأطر الثقافية والخصائص الصنفية، كما يتطرق إلى سواحل إيونيا: آخر أشباح الأسطورة، وسقراط: مشروع قراءة أدبية، إضافة إلى أفلاطون: الميتافيزيقيا والخيال الأدبي، وأرسطو: البنية المنطقية للغة.

الكتاب لا يتطفل على قراءة الآثاريين أو الفلاسفة الأكاديميين، ولا يقدم نفسه بديلاً عنها، بل يريد أن يقدم قراءة مختلفة نوعاً ما، وهي القراءة البلاغية للفكرين القديمين العراقي واليوناني.

ومن هنا فهو لا ينافس الآثاريين أو الفلاسفة الأكاديميين، بل يستفيد منهم، ويفكر في الوقت نفسه بدفع قراءاتهم إلى منطقة لا تصلها وسائلهم المنهجية المعتادة، من خلال قراءة نقدية حديثة لنصوص الأدبين السومري والبابلي تستثمر أدوات التحليل المتاحة للانفتاح على أفق جديد.

وللكتاب بنية سردية، فالبطل السردي هو فاعلية الخيال التي تظهر في البداية في نصوص الأسطورة، وبقيت تعمل فيها آلافاً من السنين ثم في نصوص الفلسفة لألفي سنة أخرى، ثم في لغة العلم الحديث منذ بداياته في القرون الثلاثة الأخيرة. لذلك فإن القارئ يستطيع قراءة الكتاب كعمل سردي، بطله بلاغة الأفكار، التي تدخل مع كل فصل في مغامرة سردية من نوع ما.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى