تجربتي في كتابة الرواية

د. عبدالنور مزين
الحديث عن تجربة كاتب ما، أي كاتب، في كتابة الرواية لا يمكن أن يكون إلا جزئيا لاعتبارين اثنين على الأقل في نظري.

الأول أن كتابة الرواية هي تلك الصنعة التي تستدعي طرقا وحيلا وطرائق وأدوات فنية ومهاراتية غاية في التعقيد، ربما لا يدركها حتى الروائي نفسه بشكل مسبق، وبذلك يكون الناقد أو الدارس أقرب إلى الغوص وسبر أغوار تلك الطرائق وتلك التقنيات. وبالتالي تبقى عصية ومنفلتة كلما حاول الروائي نفسه الإمساك بها.

والاعتبار الثاني في نظري يرجع إلى ذلك الكم الهائل من الأشكال التعبيرية والفنية الأخرى التي يمكن للرواية أن تستوعبها وتستمد منها مادتها الأولى، قبل أن تمتصها وتحيلها إلى أدوات بناء شديدة الخصوصية لبناء العالم الروائي للنص. تلك الأشكال الفنية العابرة للأجناس، من الأسطورة إلى الشعر ومن الفانتاستيكي إلى الواقعي، مرورا بالتشكيل والموسيقى والخيال العلمي.

كل ذلك ينضاف إلى التجارب الحياتية المختلفة التي يمر بها الروائي في ارتباطها أيضا بالتجارب ذات الصلة الوثيقة بالكتابة وهي المقروئية.

هكذا تجدني وأنا أحاول أ أتشارك معكم هذه التجربة أشعر بذلك العجز عن الالمام بها كليا لأروم في النهاية مقاربة تلك المشارف البارزة والمتصلة أساسا بتراكمات المقروئية أو بالعلاقة الخاصة مع لغة الكتابة، أو بتلك المرتبطة أساسا ببعض التجارب الحياتية ذات الصلة بالحركية الاجتماعية التي عاشها المغرب المعاصر.

ولا أفشي سرا إن قلت إن تلك الأشياء مجتمعة وغيرها الكثير، تداخل ولا يزال يتداخل كي يؤسس تلك التربة التي تنبت كل كلمة كلمة وكل سطر سطر لمشروع الكتابة لدي، والذي لا شك فيه أن الرواية تأخذ الحيز الأهم.

• في العلاقة بالكتابة

الوحيدون الذين يمكنهم النفاذ إلى عمق الأحاسيس التي تجتاح أي روائي وهو يرى روايته ضمن تلك الباقة المنتقاة بعناية من حدائق وغابات الأدب العربي على امتداداتها وتنوع جغرافيتها، هم العشاق. ذلك أن الكتابة كلما أمعنت فيها حبا بادلتك عشقا بعشق. أن تنقلك الكلمة من واقع إلى واقع آخر مغاير لم يكن إلا في مجال الحلم، هناك تكمن قوة الكلمة وتكمن ثوريتها الحقيقية، لا المجازية، في تأكيدها أن الحلم لا يزال ممكنا.

أنا الطبيب القادم إلى الأدب من قارة أخرى، قارة الألم، على شراع العشق والحلم. عشق الكلمة الجميلة التي تفتح بابا على الأمل، وتفتح منفذا للنور على دهاليز العتمة. هكذا تصورت علاقتي بجسد تلك اللغة، بكل حليها وزينتها، ومع كل حدائقها الخلفية وكل فساتينها ودندنة همسها.

كنت دوما أومن أن الكلمة، الكلمة الشاعرة، تحمل في ثناياها شيئا من أسرار الحياة الكثيرة. لذلك كلما كانت الكلمة تحمل هذا المعنى فهي تنحاز بالضرورة إلى الجانب الأروع في الحياة، تنحاز في شاعرية صدقها إلى جانب الحلم والأمل.

وقد كانت لمهنة الطب التي أمارسها مساحات واسعة في الحياة للعيش بالقرب من الألم، والطب يروم دوما قلب الألم أملا، تماما كما الكلمة الصادقة الجميلة في الأدب، تفتح تلك النوافذ على شواطئ الحلم والأمل.

• في العلاقة بالقراءة

القراءة نهر الحياة بالنسبة لكتابة الرواية فهي ذلك الشريان الذي يغذي ذات وروح ماهية الرواية، القراءة في تعددها المعرفي وغنى وتنوع حقولها وآفاقها. لذلك لم أجد الآن وأنا أحاول المضي قدما في المشروع الروائي، إلا ذلك السماد الحقيقي الذي كونته قراءة التجارب الروائية والقصصية والشعرية الكثيرة. ذلك السماد الذي يُغذي لا محالة تلك الواحة المشتهاة. واحة الكتابة الروائية.

• في العلاقة بالمجتمع

إن مشروع الكتابة عامة والكتابة الروائية على الخصوص لا يستقيم في كنهه إن لم يكن يحمل يروم في نهاية المطاف إضافة لبنة ما إلى البناء الشامل الذي يروم تغيير المجتمع وبناء أفق مغاير للحلم. ولذلك لا يستقيم هذا الفهم لهذا الجانب من جوانب أدوار الكتابة، بمعزل عن فهم جيد للواقع المعيش. لذلك كنت – ولا أزال – أجد نفسي منخرطا بشكل أو بآخر في أدوات وأشكال العمل المختلفة للتغيير الاجتماعي. والكتابة الروائية في نظري تعتبر جزءا لا يتجزأ من ذلك المجهود المشترك لتلك القوى التواقة لبناء أفق آخر للحلم، آخر للحرية.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى