أسطورة ‘بوني وكلايد’ بعد خمسين عاما

أمير العمري

في حفل توزيع جوائز الأوسكار الأخير ظهر على المسرح لتقديم الجائزة الرئيسية، جائزة أحسن فيلم، اثنان من أبطال العصر الذهبي في هوليوود: وارين بيتي (80 سنة) وفاي دوناواي (76 سنة). ورغم ما قدماه من أفلام كثيرة خلال أكثر من خمسين عاما إلا أنهما ظلا في ذاكرة عشاق السينما يرتبطان بظهورهما المشترك في فيلم “بوني وكلايد” (1967) الذي يعتبر إحدى الكلاسيكيات الكبرى في السينما الأميركية.

وفي الثامن من مارس نشر شاب وفتاة من دالاس شريط فيديو يصور قيامهما بقتل شاب في عرض الطريق، ثم نشرا صورا لهما معا على موقع “إنستغرام” وهما يحملان الأسلحة، وكتبت الفتاة تحت الصور “أنا بوني عنده، وهو كلايد عندي”. وقد قبضت عليهما الشرطة ووجهت لهما تهمة القتل.

وهكذا بعد مرور 50 عاما على ظهور هذه التحفة السينمائية عاد الفيلم مجددا إلى دائرة الأضواء، وإن لم يكن قد غاب أبدا. وكانت أفلام كثيرة قبله قد استلهمت قصة بوني وكلايد، لكن هذا الفيلم الذي أخرجه آرثر بن كان مختلفا، وكان قريبا من روح السينما الأوروبية، أي أنه كان بمثابة ثورة على قواعد سينما هوليوود خاصة أفلام الجريمة والعنف.

قبل ظهور هذا الفيلم لم يكن تصوير العنف في السينما الأميركية قد أصبح مألوفا على نحو ما شهدنا في “بوني وكلايد”، العنف المادي المباشر المحسوس الذي يجعلك تشعر بالرصاصة وهي تخترق الجسد البشري. وكان الفيلم أيضا نتاجا لـ”الثقافة المضادة” التي سادت أميركا في زمن الرفض الجماعي لحرب فيتنام وتصاعد حركة المناداة بالحقوق المدنية واغتيال كنيدي وانتشار حركات الهيبيز وموسيقى التمرد (وودستوك) ورفض قيم المجتمع الاستهلاكي.
الخلفية الاجتماعية

رغم أن أحداث الفيلم تدور في الثلاثينات من القرن العشرين، إلا أنه كان -وقت ظهوره- عملا شديد المعاصرة ولا يزال كذلك، ففي الثلاثينات تلك كانت البنوك تستولي على منازل العاجزين عن السداد بسبب “الكساد الكبير” الذي ضرب الولايات المتحدة في أول أزمة اقتصادية كبرى امتدت لعقد من الزمان بين 1929 – 1939. وفي أحد المشاهد الأولى يقوم كلايد بتدريب بوني على الرماية بالقرب من منزل مهجور، ثم تظهر فجأة شاحنة صغيرة تحمل أمتعة وبعض الأثاث القديم المتهالك بداخلها رجل وزوجته وأطفاله.

يهبط الرجل ويشير للمنزل قائلا إنه منزله الذي استولى عليه البنك بعد أن أصبح عاجزا عن سداد الأقساط بسبب فقدان عمله، وأنه جاء لإلقاء النظرة الأخيرة عليه. يطلق كلايد الرصاص على لوحة البنك الموضوعة أمام المنزل وعليها ما يشير إلى أنه أصبح مملوكا للبنك محذرا من اقتراب أيّ شخص من المكان، ثم يناول كلايد المسدس للرجل ويشير له بأن يطلق الرصاص بدوره على اللوحة ثم على نافذة المنزل الأمامية في إشارة رمزية إلى رفض النظام الرأسمالي الظالم.

يقول المخرج آرثر بن في الكتاب الذي أصدره عن تجربته في إخراج “بوني وكلايد” إن البنوك بعد أن تستولي على المنازل والمزارع وتطرد أصحابها كانت تعجز عن إدارة هذه الممتلكات مما يؤدي إلى مزيد من الكساد والتدهور الاقتصادي. وكان الشعور بالظلم والحرمان من هذه المعاملة المتوحشة يدفع الكثير من أبناء المزارعين والبسطاء من سكان الريف الأميركي إلى الجريمة رغبة في الانتقام من النظام السائد.

في مشاهد عديدة من الفيلم نرى كيف أصبح الكثير من المزارعين الفقراء يهيمون على وجوههم مع أبنائهم وزوجاتهم بعد أن أصبحوا عديمي المأوى يقيمون في الخلاء، وكيف كانوا يتعاطفون بحماس مع بوني وكلايد، يقدمون لهما الماء والطعام، يرون فيهما بطلين يقومان بما يعجزون هم عن القيام به. لقد تحول “المجرمان” الخارجان عن القانون إلى بطلين في ملحمة أسطورية.
شخصية مركبة

وبقدر ما يُظهر كلايد بارو من شجاعة وعنفوان وقدرة على المناورة والتمكن من مطارديه ودقة مثيرة للإعجاب في التصويب وإطلاق الرصاص بقدر ما يكشف الفيلم عن الجانب الآخر أي عن ضعفه الجنسي الناتج عن انعدام ثقته بنفسه، حتى لو أمام امرأة بفتنة وجاذبية “فاي دوناواي” التي تقوم أمامه بدور “بوني باركر”.. ولكي يثبت لها أنه يحترف السطو المسلح يدخل إلى دكان قريب ويسرق ما فيه من مال تحت تهديد السلاح ثم يفرّ معها في سيارة يسرقها.

تصرخ بوني في سعادة هستيرية تمتزج باستثارة جنسية واضحة وتنهال عليه تقبيلا وتحتضنه وتريد أن يمارس معها الجنس لكنه يوقفها ويغادر السيارة هربا منها، ثم يعترف لها بأنه “ليس متمكنا من هذا الأمر”. ويمهد آرثر بن لهذا التصعيد الدرامي الكاشف في المشهد السابق مباشرة حينما يتأهب كلايد للقيام بعملية السطو وعندما يخرج مسدسه تتطلع إليه بوني في نشوة ثم تتحسس المسدس بتلذذ.

إن تجسيد ملامح شخصية كلايد على هذا النحو يخدم أكثر من فكرة، فهو النرجسي المغالي في ثقته بنفسه من ناحية الشجاعة، وهو المحب الغيور الذي يمكن أن يرتكب جريمة لمجرد أن يوجه أحدهم إهانة عادية إلى معبودته بوني. فهو يكاد يفتك بالضابط “فرانك هامر” الذي جاء من تكساس متعقّبا العصابة ليتخذوه ألعوبة يلهون بها في سخرية مريرة بعد أن التقطوا صورة له وهو مقيد في وسطهم وأرسلوها لتنشر في كل صحف الولاية. وكلايد -رغم فردانيته- لديه إحساس بالانتماء إلى شقيقه الأكبر “باك” (يقوم بدوره ببراعة جين هاكمان)، وهو على استعداد لأن يغفر كل حماقات زوجته “بلانش” لكي لا يجرح مشاعره رغم اتفاقه ضمنيا مع بوني على أن بلانش مثيرة للمتاعب وهي ستتسبب بسلوكها فيما بعد في مصرع زوجها.
التمهيد الدرامي

يعبر آرثر بن من خلال أكثر من مشهد عن النهاية الدامية التي تنتظر البطلين. هناك أولا مشهد أسر الضابط “فرانك هامر” واختلاف أفراد العصابة بشأن مصيره، فباك وكلايد يطالبان بإعدامه وتصرخ “بلانش” فزعا معترضة على القتل فينتبه الضابط إلى شخصية بلانش (ابنة القس) ويدرك أنها ستكون نقطة الضعف التي ينفذ من خلالها لتحقيق غرضه.
المشهد الثاني يأتي بعد سرقة سيارة رجل كان يلهو مع عشيقته ثم اختطاف الاثنين واللهو والعبث معهما داخل السيارة حيث يتراجع خوف الأسيرين ويحلّ الشعور بالثقة والألفة وتطغى روح الدعابة ويتضح الوجه الإنساني “الطفولي” لبوني وكلايد. وعندما يفصح الرجل عن مهنته وهي دفن الموتي يمتقع وجه بوني وتطلب من كلايد أن يلقي به خارج السيارة. لقد حل التشاؤم محل المرح وانقشع إيهام النفس باحتمالات النجاة الوهمية.

المشهد الثالث وهو الأهم والأكثر حضورا مختلف حد التناقض مع “روح الفيلم” بنغمته اللونية وإيقاعه وأسلوب تصويره. هو مشهد حميمي بعيد عن طابع المغامرة والعنف. بوني تعرب عن رغبتها القوية في رؤية أمها العجوز، يصطحبها كلايد مع باقي أفراد العصابة لترى أمها وشقيقتها في مكان مفتوح قرب بحيرة وعلى خلفية تل رملي. الصورة شاحبة تميل إلى اللون الأصفر فالسماء معتمة والرؤية ضبابية، ويستخدم آرثر بن عدسة تجعل ما يظهر في الخلفية يبدو غامضا مهتزا وتهتز الكاميرا وتتحرك يمينا ويسارا خارج الطابع السائد في الفيلم. إنه مشهد كاشف يعكس التشاؤم من المستقبل ويمهد للموت.

تقف والدة بوني بجوار ابنتها تفصلهما مسافة. تتطلع إليها في صمت. إنها غير راضية عن اختيار ابنتها. يحاول كلايد طمأنتها والتخفيف عنها فيقول إنه عندما يتوفر لديهما المال سيشتريان منزلا ويقيمان بالقرب منها. تقول المرآة “افعلا هذا وسوف لن تعيشا طويلا”.

ثم يأتي المشهد الذي تقرأ خلاله بوني على كلايد القصيدة التي كتبتها من كراسة في يدها. هنا يستخدم آرثر بن المونتاج المتوازي والمزج بحيث ينتقل إلى الضابط وهو يقرأ القصيدة منشورة في صحيفة، بينما مازلنا نسمع صوت بوني من خارج الصورة. تروي القصيدة قصة البطلين وتنتهي بالنبوءة التي لا مفر منها أي بالموت عندما تقول “ذات يوم سيسقطان معا وسيدفنونهما جنبا إلى جنب، إنه الموت لبوني وكلايد”.

وبعد أن تنتهي بوني من قراءة القصيدة يشعر كلايد بالتجهم لكنه يحاول التسرية عنها فيقول “أتدرين ماذا فعلتِ؟ لقد رويتِ قصتي كلها.. قلت لك ذات مرة إنني سأجعلك مشهورة، وها أنت قد جعلت مني شخصا يتذكره الناس”. بعد هذا مباشرة يحدث اللقاء الجنسي الناجح الأول والأخير بينهما. فبعده يأتي الموت.

يجعل سيناريو الفيلم من الشخصية الثانوية في الفيلم، أي “سي دبليو موس″ هذا العضو الفاعل من البداية في عصابة بوني وكلايد (قام بدوره ببراعة كبيرة مايكل ج بولارد) الأداة النهائية التي ستلعب دورا مباشرا في نهاية بطلي الفيلم، ولكن رغما عنه. لم يكن رجال الشرطة الذين يتعقبون العصابة يعرفون شيئا عن موس، وكانت تقارير الصحف تشير إليه باعتباره “شخصا غير محدد الهوية” وكان يغضب لذلك. وعندما يذهب بوني وكلايد للإقامة في منزل والد موس بعد إصابتهما حيث يتلقيان العلاج بعد مصرع “باك” في المواجهة الدموية الأخيرة مع الشرطة والقبض على بلانش، ينتهز والد موس الفرصة ويعقد اتفاقا سريا مع الشرطة لإنقاذ ابنه من المحاكمة مقابل التخلي عن البطلين وتعاون الأب في دفعهما نحو مصيرهما.
واقعية صارمة

ينقل آرثر بن العنف من الخيال الرومانسي الذي أدمنت هوليوود تقديمه إلى الواقعية الصارمة يجعله ماديا ومباشرا ومحسوسا. كما يدين العنف المضاد الذي يمارس تحت راية القانون بوحشية وخسة، فالمتفرج يتعاطف مع البطلين (الخارجين عن القانون)، ويمقت الضابط الذي يتصرف بنذالة لتحقيق هدفه الذي أصبح أساسا هدفا شخصيا أي الانتقام بما نزل به من إهانة.
أما بوني وكلايد فهما مدفوعان ببراءة للبحث عن الانتماء وعن الأسرة البديلة وعن التحقق في واقع لا يعترف بوجودهما أصلا. بل إن الفيلم يؤكد أن ما سرقاه من مال كان ضئيلا لا يقارن بحجم المخاطرة. وفي أول عملية سطو يقوم بها كلايد يجد خزينة البنك خاوية فيقتاد موظف البنك تحت تهديد السلاح لكي يخبر بوني بذلك لعلها تصدقه وتنفجر بوني في نوبة من الضحك المجنون من عبثية الموقف.

يعكس مشهد القتل النهائي أسلوب المخرج المبدع الذي يضع بصمته على الفيلم ويصبغه بأسلوبه الخاص الذي يختلف عن الطريقة “المنهجية” التقليدية التي كانت سائدة في هوليوود.

يظهر مالولم موس والد “سي دبليو” يحاول ضخ الهواء في إحدى عجلات شاحنته الكبيرة التي تبدو وكأنها تعطلت على أحد جانبي الطريق. يتطلع الرجل بين الحين والآخر نحو الطريق فهو يترقب وصول سيارة بوني وكلايد وعندما يراها قادمة يسرع ليقف وسط الطريق مشيرا لهما بيده. تتوقف السيارة ويهبط كلايد يقترب من الرجل ليساعده، ينظر الرجل فيرى سيارة أخرى تقترب فيضطرب ويرتبك.

وفجأة تنطلق مجموعة من الطيور من داخل الدغل المقابل على الجانب الآخر من الطريق، يتطلع الرجل مرعوبا، بينما يرفع كلايد بصره نحو الطيور ويبتسم وتتطلع بوني من داخل السيارة وترتسم على شفتيها ابتسامة. يتطلع الرجل نحو الدغل الذي انطلقت منه الطيور وفجأة يلقي بنفسه أسفل الشاحنة ليختبئ. تدرك بوني من مكانها الأمر.

يتطلع إليها كلايد ويشرع في العودة إليها في تلك اللحظة تنطلق عشرات الرصاصات نحوهما.. تمزق جسديهما. يتطاير جسد كلايد المصور من زوايا مختلفة ثم يسقط بالحركة البطيئة على الأرض ويظل يتقلّب في أوضاع مختلفة مع انهمار الرصاص، ويظل جسد بوني يهتز بفعل الرصاص الذي يواصل اختراقه، ثم يتدلى بالحركة البطيئة خارج السيارة ويأخذ في التقلص تدريجيا بفعل المؤثرات الخاصة المستخدمة، وهو أسلوب في الصورة سيصبح فيما بعد تقليدا جماليا في أفلام العنف الفنية كما سيفعل سام بكنباه بعد عامين فقط في “العصبة المتوحشة”.

وفي “بوني وكلايد” من الدروس التي يمكن أن يتعلم منها طلاب السينما ودارسوها الكثير.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى