فيلم «ليلتي عند مود» لإريك رومير: امرأة مستقلة تواجه المجتمع

نسرين علام

عندما أقول نعم، فهي نعم، وعندما أقول لا، فهي لا» هكذا تقول مود الشخصية المحورية في فيلم «ليلتي عند مود «Ma Nuit Chez Maud» (1969) للمخرج الفرنسي إريك رومير، الذي يعرض حاليا في لندن عرضا مطولا ضمن موسم للأعمال الكاملة لمخرج الموجة الفرنسية الجديدة الكبير.
نحن إذن بصدد بطلة تعرف ما تريد ومن تريد ولديها الجرأة والشجاعة على أن تنفذ ما تريد، وعلى أن تدني منها من تريد، ونحسبها لثقتها الفائقة بالذات شخصية فائقة الجاذبية والإغواء. تأتي فتنتها ليس من جمالها الأخاذ فقط ولكن من اعتدادها وثقتها الشديدة بالذات.
«ليلتي عند مود» فيلم عن المرأة المستنيرة المتفتحة المستقلة الصريحة التي تعرف ما تريد. هو فيلم عن الإعجاب والإغواء، الإغواء بالإيماءات والإشارات، الإغواء بلغة الجسد، الإغواء بسطوة العقل والذكاء، الإغواء باللغة والأدب والمعرفة والثقافة. هو أيضا فيلم عن ذلك الشد والجذب بين رجل وامرأة في بداية تعارفهما. وهو فيلم عما يعنيه أن يكون المرء متدينا محافظا. وهو فيلم يحتفي بالثقافة والفلسفة والفكر. فيلم ثري هو يفتن مشاهده بينما يُعمل عقله، وعلى الرغم من تعدد اهتمامات الفيلم والقضايا التي يناقشها، إلا أنني أحسبه من أفضل الأفلام التي شاهدتها تناولا لكل القضايا السابقة.
الليلة التي تعنون الفيلم هي تلك الليلة التي يمضيها جون لوي (جون لوي ترنتنيون، الذي يعد أشهر أدواره دور البطولة في «رجل وامرأة» لكلود لولوش، والذي رأيناه مؤخرا في «حب» لميشايل هانيكيه) في منزل ذات الجمال والثقافة مود (فرنسواز فابيان) قبيل عيد الميلاد في ليل شتوية يتساقط فيها الثلج بغزارة.
مثل الكثير من أعمال رومير التي تلمح ولا تصرح، فإن عنوان الفيلم يوحي بليلة فيها من الفعل الجنسي الكثير، ولكن إن كانت الليلة تمضي في الحديث حتى مشارف الصباح، فإنها ليلة لا تقل حسية أو إغواء عن الليالي الشبقة.
جون لوي مهندس وسيم في الرابعة والثلاثين، سافر كثيرا وعمل في كندا وتشيلي، ولكنه عاد إلى فرنسا ويعمل لدى ميشلان ويقيم في بلدة كليرمون فيران ويعتزم البقاء فيها. كان في أيام سابقة ذا علاقات وصداقات، ولكنه كاثوليكي متدين يواظب على الذهاب إلى الكنيسة. وهناك في كنيسته لمح فرانسواز (ماري كرستين بارو)، تلك الشقراء التي تتعبد وتصلي بورع، وقرر في لحظتها وقبل أن يتحدث إليها أو يعرفها أنها ستكون زوجته.
أما مود فهي طبيبة أطفال مطلقة وأم لطفلة صغيرة. قارئة مثقفة ذكية هي وفاتنة جسدا وفكرا. على النقيض من جون لوي، مود ملحدة، ونعرف في الفيلم إنها تأتي من أسرة عتيدة في التمرد الفكري والديني وفي الالتزام بالإلحاد.
قبيل قداس ليلة عيد الميلاد يلتقي جون لوي بالصدفة صديق الصبا فيدال، أستاذ الفلسفة في الجامعة، الذي يقترح تمضية الأمسية في منزل صديقة له هي مود. ونظرا لأنها ليلة شتوية مثلجة، تقترح مود على جون لوي، الذي يقيم بعيدا، أن يمضي الليلة في منزلها، لأنها تخشى أن تتعرض سيارته لحادث لأن الأرض زلقة.
يتضح منذ بدء الليلة أن السيطرة والغلبة في لعبة الشد والجذب بين الجنسين لمود وأنها هي من يمسك خيوط اللعبة ومن يدير الدفة. الرجلان يبدوان لها «مراهقين» وتصف جون لوي في جديته في الحديث عن الفلسفة والدين بأنه «صبي في الكشافة». تتحدث هي فيصغيان، تتحدث عن فلسفة باسكال، فيعلمان أنها ند لهما فكرا وثقافة.
هي من يلمح بأن على فيدال الانصراف وهي من يلمح ويصرح ببقاء جون لوي. تتكئ على فراشها باسترخاء في دعوة غير معلنة، وعندما تلحظ تحفظه، تدنيه منها بأن تطلب منه أن يشعل لها سيجارة حتى يقترب منها ويجلس إلى جوارها. ولكنها عندما تلحظ أنه اقترب بدرجة لا تريدها، تطلب منه أن يحضر لها كوب ماء، فيفهم هو الإشارة ويبتعد بعض الشيء، كما لو كان الأمر جاء عفويا.
هي ليلة فيها من البوح الكثير أيضا، البوح من قبل مود عن زوجها السابق وعلاقتها به، بوح تسعى منه إلى بوح مقابل من جون لوي، وهو ما تحصل عليه.
يسلط رومير الكاميرا على الوجهين وتعابيرهما معظم وقت اللقاء بينهما. ابتسامات ذات مغزى، نظرات تدعو، نظرات تُبعد والكثير من الإشارات باليد وحركة الجسد. نصبح نحن المشاهدين شهودا على هذا اللقاء، أو هذا الدرس في كيف تدور العلاقات بين الجنسين. وليس الأمر كما يصوره رومير متكلفا على الإطلاق، بل بالغ الحساسية والفطنة. نشاهد فننتشي بخطوات اللعبة ونبحث عن الحركة التالية، إذا كنا من الذكاء أن نلحظها.
في «ليلتي عند مود»، كما هو الحال في أفلام رومير، يلعب الحوار دورا محوريا في الفيلم. من يبحث عن فيلم يضــج بالحركة، لن يجد ذلك عند رومير.
ولكن الحديث عند رومير ليس من قبيل الثرثرة. الكلمات عند رومير تأتي كلعبة شطرنج ذكية بين أصحاب عقول ذكية. هي كلمات ترسم شخصيات، كلمات تكشف فكرا، وكلمات من فرط جمالها وذكائها تغوي. هكذا حديث مود في ليلة جون لوي عندها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى