التشكيلي برهان بن عريبيّة: الفنّان في تونس مناضل ينتج الفن بجيوب فارغة

عبد الدائم السلامي

أقام الفنّان التشكيلي التونسي برهان بن عريبيّة معرضه الشخصيّ الثالث في المعهد العالي للفنون والحرف في مدينة صفاقس خلال الفترة الممتدة من 20 إلى 31 آذار/مارس المنقضي تحت عنوان «ترانس- توبوغرافيا» وهو معرض سعى فيه إلى اختبار رؤى جمالية ضمن حساسية تجريدية جديدة. يذكر أنّ بن عريبيّة باحث وفنّان تشكيلي، يعمل أستاذا مساعدا للفنون التشكيليّة في المعهد العالي للفنون والحرف في صفاقس، أنجز 3 معارض فرديّة وعددا من المعارض والتدخلات الفنيّة في الفضاءات الخارجيّة، وألقى أكثر من 30 مداخلة في ملتقيات دوليّة ووطنيّة. وهو دائم السعي إلى التوفيق والمراوحة بين البحوث والدراسات النظريّة والتجارب التشكيليّة. وقد مثّل هذا المعرض فرصة حاورته فيها «القدس العربي» حول تجربته الفنية وآرائه في المشهد التشكيلي المحلي والعربي.

■ هل من خصوصية لتجربتك الفنيّة؟
□ أعتبر أنّ تجاربي التشكيليّة تدور حول محور مركزي مفاهيمي يسائل الأمكنة والمواقع المعماريّة فنيّا، أنجزت عددا من تنصيبات فن الموقع، ضمن مقاربة سياقيّة ومرتهنة بالأحداث وخصوصيّات الموقع التاريخيّة وتجذّره في الذّاكرة، كما تعرّضت في معرضي الأخير لما يمكن تسميته الطّاقة الحسّية للأمكنة، كما أهتم بالممارسة الفنيّة الرقميّة من خلال الفوتوغرافيا التشكيليّة، لا أفصل بين الأجناس الفنيّة وبين تصنيفات الحداثة وما بعد الحداثة، لأنّ ذلك في نظري مسألة شكلانيّة وليست جوهريّة، الأهم في نظري وحدة المبحث المفاهيمي وليس التشبث بالشكل والأسلوب، أنا أحاول استعادة وامتلاك الأمكنة جماليّا على نحو ينفذ بالممارسة إلى مقاربة تتجاوز المواقف الفوتوغرافيّة المحاكيّة للظاهر، بالتالي أنتج لوحات تجريديّة، تنصيبات فن الموقع في الفضاءات العامّة والفوتوغرافيا التشكيليّة.
■ هل تعتقد أنّ الممارسة الفنيّة المعاصرة محتاجة إلى تجديد أسلوبيّ ومفاهيميّ؟
□ موقفي الشخصي ينظر إلى المعاصرة اليوم على أنّها سمة أساسيّة للإنتاج التشكيلي، الذي يعيش مشاغل عصره، والمعاصرة ليست إلا إشارة زمنيّة وليست مضمونا في حد ذاتها، أعتبر أن ما أقوم به يتأطّر في سياق المعاصرة، باعتبارها حركة مختلفة عن فترة الحداثة في تاريخ الفنون التشكيليّة. الفنّان ابن بيئته وابن عصره بمشاغله وتقنياته، أحاول توظيف البرمجيّات الرقميّة لصياغة العمل الفنّي باعتباره ورشة رقميّة لا تقل قيمة عن الورشة الواقعيّة، سواء كان ذلك في معالجة الصور التشكيليّة أو بالتصوّر التقديري المسبق للتنصيبات والأعمال الفنيّة في الفضاءات العامّة، كما أدافع عن فكرة التنصيبات في المواقع العموميّة، فهي في تقديري من الحلول الناجعة لتقريب الفنون البصريّة للعموم، وجعل الفنون مسألة لا نخبويّة تعترض المارين وتتجاوز أزمة نقص الإقبال على أروقة العرض، لا بد من تعميم الفنون قبل مطالبة الجمهور بزيارة الأروقة، فنحن لم نخلق لديه الحاجة لذلك، وحتّى استخدامي للقماشة كفضاء للرسم فهو مشحون بمفاهيم وهواجس معاصرة، أنا مع التجديد والبحث عن آفاق جديدة للممارسة الفنيّة، ومع تنويع التجارب وتكثيفها، ولا أحبذ فكرة الارتكان إلى وصفات تقنيّة جاهزة بدون خلفيّات نظريّة أو مفاهيميّة. إن مهمّة الفنون ليست إنتاج سطوح لونيّة متناسقة، بل مساءلة الوجود وتفحّص لأنظمة العالم وعلاقاته.
■ هل يحتاج الفنان التشكيلي إلى خلفيات نظرية لإنجاز لوحاته؟
□ أعتقد أن الفنون التشكيليّة تتطلّب بالضرورة إنتاج نصوص إنشائيّة وتحليليّة وتأويليّة أو نقديّة للأعمال والتجارب الفنيّة، فالفنون هي رؤية مخصوصة للعالم مسكونة برموز وعلامات وتضمينات بصريّة، تتطلّب إنتاج نصوص لتحليلها وإعادة بناء المعنى والدلالة وتجاوز ظاهر الأثر الفنّي أحيانا للوصول إلى تفاصيل جديدة في العالم الحسّي، أكتب لأحلّل تجاربي الذّاتيّة، فالكتابة عن الذات كالمشي في شوارع نعرفها، هي تحليل لمراحل الخلق الفنّي بأزمان التكثيف الحسّي، وحالات التأمّل هو نص للكشف عن المراجع وتحليل ميكانيزمات الإبداع الذّاتيّة. كما أهتم في بحوثي النظريّة بالتنصيبات الفنيّة وإشكالات الممارسة الفنيّة ورهاناتها ضمن الواقع المعاصر، ودراسة مميّزات الفنون البصريّة الغربيّة بعد ستينيات القرن العشرين، هذا الواقع الإبداعي المتغيّر الذي أنتج أشكالا مختلفة للخلق الفنّي والعرض والتلقّي، تتطلّب دراسة وتحليلا في سياقها التاريخي.
■ كيف تقيّم الحركة التشكيليّة في تونس؟
□ الإجابة على هذا السؤال دقيقة وتتطلّب إلماما بكل ما يعرض ويكتب، ومن منظوري الذّاتي أعتقد أن هناك حراكا فنيّا، من خلال عدد المعارض الفرديّة والجماعيّة، وقد سمحت شبكات التواصل بمتابعة جديد المعارض، والمسألة ليست بالضرورة كميّة، ولكن الإنتاج هو علامة صحيّة، وستثبت التجارب الجادة بمرور الزمن، ولا حاجة لنا اليوم أن نصدر أحكاما معياريّة. الملتقيات والندوات الوطنيّة والدوليّة أثبتت حضورها السنوي، غير أن أهم عائق لترسيخ هذه التجارب الفنيّة والبحوث هو ضعف طباعة الكتب والكاتالوجات، ربّما يعود ذلك إلى التكلفة المرتفعة للطباعة الفنيّة للإصدارات الفنيّة. المشكل الأكبر يبقى غياب متحف وطني أو جهوي للفنون التشكيليّة والبصريّة وقد استثمرت دول عديدة هذه المتاحف أولا لحفظ الرصيد الوطني وذاكرة الفنون، وثانيا ضمن ما يسمّى السياحة الثقافيّة وتمكين الباحثين من قاعدة بيانات تسهّل مسألة التوثيق والبيبلوغرافيا البصريّة، عموما هناك تنوّع في الأساليب الفنيّة والمرجعيّات والتأثيرات الفنيّة.
■ هل بالإمكان الحديث عن اعتراف بالفنّان التشكيلي في تونس؟
□ الفنّان التشكيلي في تونس، صفة مفتوحة لكل من يرى في نفسه القدرة على الرسم والإبداع، رسميّا لا توجد مؤسّسة تسند القيمة الفنيّة للفنّانين والأعمال الفنيّة، وهذا أمر جيّد وسلبي في الوقت ذاته، جيّد لأنّ الفنون التشكيليّة بهذه الطريقة قد سمحت بهامش كبير من الديمقراطيّة والحريّة، فلا أحد يملك في جيبه مفاتيح الفنون لإعطاء التأشيرات، وهو سلبي لأن الفنون البصريّة بهذه الطريقة لا تحمل قيمة ثابتة، ولا يمكن لها أن تدخل إلى مجال الاستثمار الثقافي للخواص أو تسويق الأعمال خارج حدود الوطن. الفنّان ينفق من جيبه الخاص ويفتقد في الغالب لمؤسسات داعمة وممولّة، خاصة أن تكلفة الإنجاز للمعارض قد تكون مثقلة لكاهل الفنّانين. ينقصنا تكريس مفهوم الصناعة الثقافيّة المتكاملة التي تدخل الفنّان في شبكة متكاملة تضمن سيرورة الإنتاج الفنّي. بعض الفنّانين مهمّشين في المجــتمع وسط بيئة ثقافيّة تغلّب الإنتاج الثقافي المسموع والسمعي البصري على الفنون التشكيليّة، الفنّان في تونس مناضل، ينتج الفن بجيوب فارغة وفي ظل وضع وطني لا يسهّل استمراريّة الإبداع.
■ ما الذي يعوق قطاع الفنون التشكيليّة في تونس؟
□ سبق أن أشرت إلى غياب متحف دائم للفنون، واستمراريّة الطبع والنشر سواء في المعارض الحاليّة أو توثيق التجارب التشكيليّة المهمّة في القرن العشرين، وأضيف إلى ذلك إقرار أزمة النقد الفنّي، وثقافة الفنون التشكيلية التي بقيت في الغالب حكرا على المختصّين والمهتمين، ويعود ذلك إلى ضعف الدور الإعلامي للقنوات التلفزيّونية التونسيّة في تغطية المعارض والندوات التي تقام في كل أرجاء البلاد واستضافة الفنّانين والنقاد للمنابر التلفزيّونية لتقريب الثقافة البصريّة للجمهور العريض، وهو أمر طبيعي يحدث في كل الدول المتقدّمة والراقية، ونقص المؤسسات الثقافيّة الداعمة للفنون التشكيليّة، ذلك أنّه حين يتهافت الجمهور على أبواب المعارض ستكون الفنون في أحسن تجلّياتها.
■ هل وجد الفن التشكيلي في «صفاقس عاصمة للثقافة العربيّة 2016» نصيبه من الترويج؟
□ لا أخفي أنّ مثقفي محافظة صفاقس عانوا خلال هذه التظاهرة الكبرى كثيرا من الإقصاء والاستبعاد، حيث انفردت زمرة من مسيّري الشأن الثقافي بالتخطيط لهذا الحدث الثقافي، في غياب رؤية استشرافيّة ومعرفة بالعديد من الجوانب الفنيّة، والحصيلة هي غياب الكتب المهتمة بالحركة التشكيليّة في تونس، وغياب المعارض الجماعيّة أو الفرديّة التي تناسب حجم هذه التظاهرة، هذا إذا استثنينا الأعمال التي عرضت في سياق الأسابيع الثقافيّة لبعض الدول الشقيقة. رسميا صرفت مبالغ خياليّة في حفل افتتاح فاشل باعتراف الهيئة، في ندوة صحافيّة بعد ثلاثة أيّام من الافتتاح، ولو صرفت في إنجاز أعمال فنيّة نحتيّة أو خزفيّة أو فسيفساء أو تنصيبات في المدينة لتحوّلت مدينة صفاقس إلى معرض مفتوح ودائم لعشرات الأعمال الفنيّة.
■ هل ينطبق واقع الفن التشكيلي في تونس على باقي أقطارنا العربية؟
□ في الحقيقة ينتابني الحذر دائما عندما يتعلّق الأمر بإصدار حكم عام على مجال ممتد وواسع من المشرق إلى المغرب، ولكن كنت أعتقد دوما بضرورة فصل الثقافي عن السياسي والجغرافي، الفنّان لا جنسيّة له ولا انتماء له، هو في الحقيقة إنسان كوني، يضيف إلى الثقافــــة الإنسانيّة. لا يمكن فصل الفنون العربيّة عن الفنون الغربيّة ولا تبيّن سمات مميّزة، ربّما إذا استثنينا رسم مشاهد من الحياة اليوميّة في مقاربة استشراقيّة أو توظيف علامات وعناصر تراثيّة أو حروفيّة، وإذا تتبّعنا جذور العلامات تبيّنا الجانب التثاقفي الذي بنيت عليه، وفصل السياسي عن الثقافي أصبح اليوم من الحتميّات في ظل هذا الخلط بين المجالين وتوظيف السياسي للفنّي في سياق أجندات غير فنيّة.
مرّت الفنون التشكيليّة في السنوات الأخيرة ومنذ سنة 2011 بحالة من التجاذبات ودخول الفنّي معترك الحلبة السياسيّة، وبروز حركات فنيّة فقاعيّة في ظل الشحن السياسي غير المسبوق، ورغبة بعض الشباب في إعادة تشكيل المشهد، لكنّ النفس الفنّي كان قصيرا ولم يثبت عموما ديمومته في الزمن.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى