جائزة البوليتزر لكاتب ليبي يبحث عن أبيه المفقود منذ ثلاثين عاما

هالة صلاح الدين

فاز الكاتب الليبي هشام مطر بجائزة بوليتزر الأميركية، وقدرها 15.000 دولار أميركي، عن سيرته الذاتية المكتوبة باللغة الإنكليزية “العودة: الآباء والأبناء والأرض بينهما”، وفق ما أعلنته لجنة تحكيم الجائزة، التي ارتأت أن سيرة الكاتب تقدم “مرثاة للوطن والأب بضمير المتكلم، وتتأمل بمشاعر مكبوحة ماضي منطقة مأزومة وحاضرها”.
الأب الوطني

ولد الشاعر والكاتب هشام مطر عام 1970 في مدينة نيويورك لأبوين ليبيين وقضى طفولته بين طرابلس والقاهرة. كان أبوه جاب الله مطر دبلوماسيا وقد شغل مواقع سياسية مختلفة في زمن القذافي كان آخرها ممثل ليبيا في الأمم المتحدة، قبل أن يصبح معارضا وينتقل للإقامة في مصر عام 1979. هناك تحول بيته إلى قبلة للمعارضين الليبيين غير عابئ بأمنه وسلامته. وقد تم اختطافه من قبل المخابرات الليبية بتواطؤ من السلطات المصرية.

كانت وطنية الأب أولوية لا مثيل لها، وهو الذي حذر يوما ولديه هشام وزياد قائلا “لا تضعا نفسيكما في منافسة مع ليبيا، سوف تخسران دائماً”.

لكن بعد اختطاف جاب الله سنة 1990، وقع اقتياده إلى سجن أبوسليم سيّء السمعة في طرابلس، كغيره من سجون البلدان العربية سيئة السمعة. قبع الأب في السجن لا يؤنسه غير الشعر الذي كان يتلوه في العتمة. وقد هرَّب رسائل إلى محبيه يصف فيها زنزانته “علبة من الخرسانة… باب من الفولاذ لا ينفذ منه الهواء” وحالته الذهنية “أظلّ أقوى من تكتيكاتهم على القهر. فجبهتي لا تعرف كيفية الانحناء”. وفي النهاية انقطعت رسائله عام 1996 واختفى إلى الأبد. قيل إنه راح من بين من راحوا حين ارتكبت السلطات مجزرة دامية في السجن، إلا أنه ما من أثر عن الأب.

يكتب مطر في مستهل السيرة أن أباه “يبدو لي دائماً جوهر ما يعني أن يكون المرء مستقلاً”، فالكاتب ما زال يستخدم ضمير الحاضر في التعبير عن حالة أبيه الذي بقي حاضرا في سيرته. هذا بالإضافة إلى مصيره المجهول، وهو كما يقول الكاتب ما “جعل إحساسي بالاستقلالية معقداً. إننا في حاجة إلى أب لكي نغضب منه. ولما يتردد الأب بين حالتي الحياة والموت، حين يصير شبحا، ينال الهوَان من الإرادة”.

ليست هذه المرة الأولى التي يتعاطى فيها الكاتب حالة الفقد، ففي روايتيه “في بلد الرجال” (2006) و”تشريح اختفاء” (2011) يصور راويين اختفى والداهما.

البحث عن شبح

رواية “العودة”، الصادرة عن دار نشر راندوم هاوس، تؤرخ لرحلة الكاتب إلى وطن أبيه في عام 2012، بعد ثلاثين عاماً من اختطاف نظام معمر القذافي لوالده. راح ابن العائلة الكوزموبوليتانية، ابنا بلا أب، رغم الألم في قلبه، يسعى إلى الوقوف على مصير أبيه. ومع طوفانه الحثيث اصطفت العراقيل الواحدة تلو الأخرى في وجهه. وهو ما حال دون إلمامه بالحقيقة حول مصير أبيه الذي يبدو أنه سيبقى مجهولا إلى الأبد.

الحقيقة، وما هي الحقيقة؟ تلك الأرض المجهولة، كما يقدمها لنا مطر. أين الأب، وكيف كان، مَن هو الآن إن كان حياً، وكيف عاش إن كان ميتا؟ حقيقة حمالة أوجه، وكل وجه يندفع منه سيل من الأسئلة. ود مطر لو يدري متى مات أبوه وكيف مات، “إنني أحسد نهايات الجنازات”.

قصد الشاعر أرض أجداده مدفوعاً بالأمل “الماكر” كما يسميه. يطلق عليه الماكر لأنه تجرجر وفي ذيله الصدق تارة والخيال تارة أخرى. كان أحد سجناء “فم الجحيم” قد اتصل بالشاعر ليبلغه أنه رأى أباه رؤية العين في عام 2002. لذا أعاد مطر البحث في قضية أبيه المفقود، من خلال وسائل عديدة منها حملة إعلامية خاضها، كما قام باتصالات بجمعيات حقوق الإنسان حتى وصل الخبر إلى مجلس اللوردات البريطاني. لكن للأسف وقفت السياسة في طريقه، فحكومة توني بلير حينها كانت على علاقة طيبة مع نظام القذافي، ولم يسفر الاستجواب عن شيء.
في الوقت ذاته، طالب كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق الحاصل على جائزة نوبل للسلام ليبيا بالإفصاح عن مكان جاب الله، بيد أن الدعوة لم تلق صدى عند نيلسون مانديلا “لحسن العلاقات مع القذافي”. هنا يتبين لنا أن هذه الشهادة عن الخسارة وفقدان الهوية أكبر من مجرد توثيق شخصي، إنها بانوراما سياسية لما ألم بالعالم السياسي من تفسخ وهبوط. وأخيراً التقى مطر بالسجين ومعه صورة للأب المزعوم التقطها في السجن، لم تكن صورة الأب، تلك “المزحة القاسية”.

هلت ساعة الانتفاض وهيمن الثوار على سجن أبوسليم إبان الربيع العربي. انتفض قلب مطر فرحاً وأملاً غير أن هدم القضبان الفولاذية لم يفلح في إيجاد الأب. تسلل اليأس تسلل الأفعى إلى نفسه، وراوده الانتحار في ساعة من البؤس. وفي لحظة الحسم، ورغم شعور العجز وقلة الحيلة، ترددت في خاطره كلمات أبيه، “اعمَل وابق على قيد الحياة”.

يستغل مطر أدواته الشعرية بألمعية. لا يفرط في الصراخ ولا يغالي في الضغينة. صوته هادئ النبرة، وردود أفعاله متوازنة رغم ما نلمسه من هوس يربط لنا خيوط المتاهة السياسية. يكتب بإسهاب، فلا يترك صغيرة إلا وتناولها أو عاطفة إلا وجاهر بها. يستخدم التضاد والتوازي للإلمام بمكنونات صدره العاصية. وعلى خلفية الوجه الشخصي يضيء لنا الطريق للإلمام بما حاق بليبيا على مدار سنوات من حكم غاشم.

لعله ما من سبيل إلى معرفة الآباء حق المعرفة، خاصة مع غموض شخصية الأب. في رواية “تشريح اختفاء” يقول نوري الابن، “الحقيقة أني لا أعتقد أنه ميت. ولكني لا أعتقد أنه حي أيضاً”. وبالكلمات نفسها تقريباً يعبِّر مطر عن حالته الشخصية في “العودة”.

ومع حياة ضاجة بالاحتمالات، وكل احتمال يولد إثر غباره تبعاته ومغباته، يفترض مطر حيناً أن أباه ميت. يتألم لأنه لم يحدس في أعماقه لحظة الموت. وربما فعل دون أن يدري.

كان إبان مجزرة السجن يعيش في لندن، وقد اعتاد الذهاب إلى الغاليري القومي ليحدق إلى إحدى اللوحات، وحين يسأم منها ينتقل إلى الأخرى. طالع مفكرة قديمة ليكتشف أنه تحول عن لوحة “مرحاض فينوس” إلى لوحة “إعدام ماكسميليان” يوم 29 يونيو 1996، يوم المجزرة. خال مطر في النهاية أن الجهل ربما كان نعمة. فمعه تتوه الحقيقة ويشتعل خيال الشاعر، “عودةً إلى تلك البقعة المألوفة، بقعة من الظلال، هناك تصير الطريقة الوحيدة للانهماك فيما جرى من خلال إعمال الخيال، فعل لا يسهم إلا في تهييج الماضي ومضاعفة احتمالاته، مثله مثل منزل بغرف لا نهائية”.

جهل المصير هنا قسري، وعقدة الناجي تشل الشاعر، والحساب لن يسوى ولو بألف سيرة. ويظل الابن في حالة من اليَمْبوس، حالة وصفها تي إس إليوت في “الأرض الخراب” قائلا “تاهت مني الكلمات، وأخفقت عيناي، لم أكن حياً أو ميتاً، ولم أعلم شيئاً، أرنو إلى قلب النور، الصمت”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى