«فوضى» الشعر العراقي في حرب لا تنتهي

محمد مظلوم

هل انتهت الحرب في العراق؟ هل يتذكر الأحياء من العراقيين بمختلف أعمارهم، برهة من الطمأنينة والسلام؟ يبدو أنَّ الحروب انتهت عند الموتى فقط. هم وحدهم ينعمون بالسلام الآن، بينما يواصل الأحياء كتابة مرثيات متعددة الأغراض لبلادهم وموتاهم، وحيواتهم الشخصية على حد سواء.
يمكن وصف ما يكتبه الشعراء الجدد في العراق الآن بـ «شعر ما بعد الاحتلال»، فهو يتضمن كل السمات الفنية والمضمونية والنفسية التي تجعل هذه التسمية مسوغة، لكنّ الثقافة العراقية لم تمتلك الجرأة النقدية لتبني مثل هذه التسمية، إذ ما فتئت الإشارات النقدية المبتسرة تتحدث عن أدب ما بعد 2003! بيد أنه ما من عارٍ في التحقيب الأدبي على أساس الوقائع، وليس تصنيف الأجيال حسب العقود، لهذا رأينا في تاريخ الأدب العربي والإنساني تصنيفات من قبيل: شعر «عصر الطوائف» و «الفترة المظلمة» و «أدب ما بعد الكولونيالية».
ولعلَّ هذا ما يفسِّر تبني بعض الشعراء الجدد في العراق تسميات تهكمية ربما، مثل جماعة «ميلشيا الثقافة» التي ينخرط فيها شاعران من الثلاثة الذين نقرأهم هنا. ولكن هل تسعى هذه الجماعة بهذه التسمية إلى الانشقاق عن مؤسسة رسمية ما؟ وأية مؤسسة بقيت في العراق اليوم؟ أم لعلها تبحث عن دورها مع ميلشيات لا تحصى ولا تعد في العراق الآن؟
على أية حال، فإنّ تسمية كهذه هي كناية عن سفرة جماعية موقتة سرعان ما يغادرها هؤلاء الفتية، لينفرد كل منهم في رحلة تيهه الشخصي. واللافت في قصائد هؤلاء أنهم لا يكتبون الشعر بانضباط، أو التزام، بل بحرية هي أقرب الى الفوضى، فوضى مقصودة ربما تعبيراً عن الغضب والإحباط واليأس، ليغدو هكذا نوع من الكتابة بديلاً عن الجنون أو الانتحار. إنها غمغمات القسوة، وحشرجة الموتى، لا همهمات الأسى وتنهُّدات الندم، والمشهد المفزع الذي تقدمه لنا أشعارهم وسواهم من أقرانهم في العراق الآن، شهادة قاتمة عن عالم ديستوبي واقعي.

دم ودموع
يستهل كاظم خنجر (1990) مجموعته «نزهة بحزام ناسف» (دار مخطوطات) بصراحة تعبيرية غاية في القسوة: «يقول التقريرُ الطبيُّ بأنَّ كيسَ العظامِ الذي وقّعتُ على استلامِهِ اليوم هو «أنت». ولكن هذا قليلٌ! نثرتُهُ على الطاولة أمامهم. أعَدْنا الحسابَ: جمجمة بستة ثقوبٍ، عظم ترقوةٍ واحد، ثلاثُ أضلاع زائدة، فخذٌ مهشمة، كومة أرساغ، وبعض الفقرات… هل يمكنُ هذا القليل أن يكون أخاً؟»
لقد قرأنا أدب الرعب، في الروايات الأوروبية في القرون المنصرمة، وشاهدناه في السينما، لكنه لا يبدو واضحاً في الشعر عموماً، وإذا كان هذا الأدب يقترن عادة بالغموض والإثارة الغريزية، فإننا أمام شراسة من القسوة في الحياة اليومية تجعلها تضاهي الخيال في فداحتها، فنحن هنا لسنا أمام أشباح غريبة بل أشلاء لأحبة! وهو رعب لا يُستدعى من عالم مجهول، بل يتكشف في عالم شخصي وحميم. والغريب هذا التفاعل معه بدل النفور منه، وربما ينبغي التذكر هنا أنَّ تكتيك الهجوم الأميركي على العراق وصف بـ «الصدمة والرعب»!
تمضي أيام هذا الشاعر في البحث عن الأشلاء، لا عن الخلود، وعن العظام كأنها لقى أثرية، لا عن مشاهد البشر وهي تمضي إلى شؤونها اليومية. هذه النزهة المروِّعة تنتقل بين مشهد على الشاشة، وآخر في الجوار تختنق فيه الأنفاس بروائح القتلى المتفحمين، وتبتلّ العيون لا من الدموع، بل من الدخان المنبعث من بقايا الأجساد وشظايا السيارات، لذا يقترح أن تكتب الشواهد على البيوت والأجساد، لا على المقابر، وتتناوب السكاكين والحراب والسيوف والقنابل والعبوات الناسفة في خلق المشهد والمعجم معاً، أما أماكنه فهي: مستشفيات الطبِّ العدلي، مجالس العزاء، المقابر، وأشخاصه: الملثمون، وحفارو القبور، حتى يصبح هو القاتل والجثة، في صورة تقريبية لعالم العراقيِّ في هذا الزمان.
يسترجع خنجر في ديوانه عويلاً موغلاً في القدم لكنه لا يندثر، قادماً من خرائب أور وأطلال سومر، لطخة في وجه الحاضر والتاريخ، وهذا الاسترجاع، لا يتجسد في صيغة الندب والنواح الرافديني على المدن والأحبة فحسب، بل حتى في الأداء الفني المماثل من خلال تكرار اللازمة لخلق تدفق مضاعف للنواح: «نحن العراقيين/ نزرع المقابر أمام البيوت/ نحن العراقيين/ الأصابعُ نفسُها التي جمعنا بها الخراطيش صغاراً/ الآن نحسبُ بها القتلى»…
من الطبيعي أن يكون شعر الحرب عارياً من البلاغة، منكشفاً كانكشاف المصير الإنساني فيها، لذا يقدم أحمد ضياء (1990) في مجموعتين شعريتين أصدرهما في زمن متقارب «مملكة العظام» و «الحرب دموعها خشنة» (دار الانتشار العربي) فانتازيا أخرى مرعبة، بحيث تتجاور السوريالية بجانب المأسوية. في شعره تجريب وفوضى منعكسة، إذ نقرأ في «مملكة العظام» قصائد مقلوبة وأخرى مشطوبة، أو تكرار جملة واحدة على صفحتين: «كل الأشياء لا توحي بشيء» في تكبير بصري ينمو مع كل سطر جديد، تعبيراً عن ضخامة المأزق.
لكنّ النزوع السوريالي يبدو أحياناً تصعيداً لانحراف بلاغي ودلالي في علاقات الكلمات، بينما لا تنطوي الصورة الشعرية على شراسة المخيلة، أو الدفقة الشعورية المستبطنة، التي يمكننا أن نصفها فيه بسوريالية فعالة: «في مطبخ الحرب: الطاهي يتفرَّجُ على المندسِّين وينثرُ البنزينَ على أقدامِنا لنتوهَّج أكثر/ الإطفائياتُ ترشُّ خاصرتَها أمام المحتشدينَ بعماءِ الأيديولوجيا/ لي شامتانِ أضعُهما في جسدي ما أن تتكوَّر الرؤيا».
كان أحمد ضياء غِرّاً حين غزت القوات الأميركية بلاده، وهو يستعيد غرارة تلك الأيام كأنَّه يستفيق من غفلة بلادٍ بأكملها: «تقصفُنا طائراتهم/ نهرولُ خلفَ مدرعاتهم من أجل عِلكة/ خذْ هذا الدولار وارفعْ رفاتَ أخيك!». هكذا أصبح عالمهُ خزاناً للكوابيس: «برادُ قتلى وملاعبُ خماسيةٌ في رأسي»: في الثلاجةِ، عتمةُ المقابرِ، رائحةُ العواءِ، المشرحةُ، السكاكينُ، لحومٌ متناثرةٌ، في الثلاجة، ملابسُ أخي، شرشفُ المستشفى، سديةٌ عتيقةٌ، لعبٌ على أيدي الموتى، حيث الغبارُ المتطايرُ من الدمِ».
حين يقرن الشاعر ثلاجة البيت ببرَّاد القتلى أو المشرحة، كأننا أمام دراكولا عراقي، فإن هذا النوع من الأدب يبدو أكثر ارتباطاً بالتحليل النفسي منه إلى النقد الأدبي. بيد أن هذا العنف مصدره ليس منزلياً بل هو عنف وطني وإنساني شامل. فنحن في أجواء بلاد تبدو مصحَّة كبرى، في عالم من العنف المنفلت واللصوصية المستحكمة والثقافة الطائفية.

نثر أسود
الحرب في حياة علي وجيه (1989) في ديوانه «سرطان-نثر أسود» (دار المعقدين) ليست حدثاً طارئاً، فهي مقترنة بالولادة بشارةً سوداء، فمنذ أولى القصائد: «c.v» يرسم الشاعر مخططاً غيبياً لعالمه بإحداثيات قسوة لا تقل عن سابقيه: «ولدتُ بعدَ الحربِ!/ لكنني خاكيُّ البكاء/ وفي نهاية «الكاروك» الساترِ/ أرى خوذةً فوقَ رضَّاعتي/ أرضعُ منها الدمَ وخيباتِ الغدِ/ وفي قماطي يتساقطُ الشهداء!».
وتبدو عبارة «بعد الحرب» نكتة سوداء لأنه ما من حرب انتهت بالفعل. ولأنّ الحرب هي القدر والمصير فإنه يحاول الخروج إلى بــشارات أخرى، إذ ينزع، على رغم الفجـــيعة، نحـــو موضـــوعات أخـــرى، إلى تلك الذكريات التي لا تخصه، وأيام ما قبل ولادته، وإلى المرأة التي تتشظى صورتها من تلك اليقظة المبكرة للرغبة مع معلَّمته، إلى صور مراهقات البصرة.
وكان يتذرع بالعودة إلى هذه المدينة لأنَّ بغداد أصبحتْ مكاناً مشحوناً بالعنف، وهي عاصمة الألم والأمل معاً، بمعنى أنها ليست مدينة ميتة، بل حيَّة وحيوية بشكل مفرط، يتجلى بصورتها العنفية، لكنها ليست تلك المدينة الفاضلة وسرة التاريخ في الذاكرة والخيال، بل مدينة فاسدة لا مناص منها، ولا خلاص من سحرها الآثم. فيستعيد صورة «الشاكرية»، المدينة التي شيدها المهاجرون من أرياف الجنوب، مدوِّناً ذكريات لم يعشها لكنها انبثاقٌ شعري للاشعور الجمعي من هذا الميراث الغامض بالنسبة اليه. ثمَّ يشيد بصعاليك يكتبون النثر «لأنَّ الموزونَ لا يضبطُ أحزانَهم»، فالكامل «متفائل متفائل متفائل» والطويل «آهة كالنخيل» والوافر: «لا يوفر لهم التسكع في الأرض»… وشعره أميل إلى الاستفاضة والتدفق الحر، ربما لهذا سماه نثراً أسود، كأن ثمة بنية حكائية واضحة في قصائد الديوان.
لكنّ دوامة الرعب والقسوة تعود لتهيمن على المشهد من جديد، فيكتب عن مجزرة كنيسة سيدة النجاة ومجازر أخرى.
كانت غورنيكا بيكاسو، أهم عمل فني يدين الحرب، الحرب الأهلية الإسبانية والقصف النازي للمدينة الباسكية على حد سواء، وحين احتل الألمان باريس، رأى أحد الضباط النازيين صورة للوحة فسأل بيكاسو: هل أنت من فَعَلَ ذلك؟ فأجابه بيكاسو: لا… بل أنت فعلته؟ ونحن هنا أمام غورنيكا عراقية أكثر قسوة، فهل هي من فعل الشعراء؟

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى