معاناة نقاد السينما مع النجوم: لا تقل الحقيقة عنهم وإلا فلن تُدعى في المرة القادمة

أمير العمري

الصحافي البريطاني سيمون هاتينسون نشر قبل سنوات مقالا طريفا في “الغارديان” يعرض فيه للعلاقة المعقدة الملتبسة بين النقاد ونجوم السينما، أو بين الصحافة الفنية وشركات التوزيع السينمائي الأميركية بوجه خاص. كيف يحدث أن يجري صحافي ما مقابلة مع نجم من نجوم السينما في هوليوود، ما هي الشروط التي يجب توافرها في الأسئلة التي ستوجه وهل يُسمح أصلا بإجراء مقابلات مباشرة بين الصحافي والنجم، وما هو دور مديرة العلاقات العامة في مسار المقابلة.

المقال شديد الطرافة والأهمية بل إنه يمثل أيضا خروجا عن المألوف، فكاتبه يكشف تفاصيل وأسرار ما شاهده بنفسه وما تعرّض له بما يجعله في مرمى النيران، ولا شك أنه دفع ثمنا باهظا لما كتبه ونشره بل ويشير مقاله أيضا -كما سنرى- إلى أنه تلقى بالفعل الكثير من اللوم والتعنيف والإنذار بالعقاب في المستقبل.

يستهل الكاتب مقاله على النحو التالي: في الأسبوع الماضي تلقيت مكالمة هاتفية من شركة “فوكس” . وكان هذا شيئا مفاجئا لأن “فوكس” نادرا ما تتصل بالصحف ذات المستوى الرفيع، فهي تعرف أن “الخبطات” الصحافية ذات التأثير تختص بها عادة صحف “التابلويد” الشعبية، فإشاعة من النوع المتقن أو كلمة أو كلمتان عمّا شاهده الصحافي في عرض خاص لفيلم ما قد يساهم في إنجاح الفيلم. وعلاوة على ذلك فقد أصبح روبرت ميردوخ هو الذي يمتلك شركة فوكس، وأصبح المجال بالتالي أوسع للترويج لأفلام الشركة في صحف التابلويد التي يملكها ميردوخ مثل “ذي صن” و”نيوز أوف ذي وورلد”. ولكن كان هناك سبب لهذه المكالمة فقد نشر لي مقال صغير في ذلك اليوم ضمن ملحق الجمعة عن بيتي توماس مخرج فيلم “دكتور دوليتل” الجديد لإيدي ميرفي. لم يكن مقالا رصينا لكنه كان دقيقا وبعيدا عن الهجومية.

وجاء صوت مسؤولة العلاقات العامة في الشركة عبر الهاتف “هالو سيمون.. مقالك عن بيتي توماس لم يكن لطيفا.. أليس كذلك؟”.

ماذا كانت تقصد؟ “أتعرف.. كان مقالا حادا.. لم يكن إيجابيا”. سألتها هل طلب أحد أن تبلغني بأن المقال لم يكن لطيفا؟ وجاءت الإجابة: نعم، لقد تلقيت مكالمة هاتفية من أميركا وقالوا لنا أن نخبركم بأنهم غير سعداء بالمقال. ويقولون إنه في المستقبل، إذا كان هناك أيّ مستقبل….” ولم تكمل مسؤولة العلاقات العامة العبارة، أو ربما أكملتها، لكني من شدة الصدمة لم أعد قادرا على سماع ما قالته بعد ذلك. والأمر المدهش أيضا أن مكالمتها معي جاءت في الساعة الثالثة بعد الظهر، أي في السابعة صباحا بتوقيت لوس أنجليس. وتساءلت أنا بصوت خفيض: في أيّ وقت بالضبط يستيقظ عادة أساطين السينما في لوس أنجليس ويبدأون في تمشية كلابهم!

بعد ذلك يمضي الكاتب يصف في إسهاب مثير ما وقع معه، مشيرا إلى وضع نقاد السينما في الصحافة البريطانية، ويتطرق بالتفصيل إلى الزيارة التي قام بها بدعوة من إحدى شركات الإنتاج السينمائي إلى أحد أستوديوهات هوليوود: إنني أذكر هذه المكالمة -وقد تكرّرت معي كثيرا خلال الأسابيع الماضية- لكي أوضح جانبا خطيرا أعتقد أن مشاهدي السينما لا يعرفون عنه الكثير، فبينما تزداد المساحة المخصصة للسينما في الصحافة يتضاءل الاهتمام بنقاد السينما وبتوفير الظروف المناسبة لهم من أجل أداء وظيفتهم. وإذا كانت شركات الإنتاج تتهافت عادة على نشر ولو بضعة أسطر عن أفلامها، فإنها في الوقت نفسه ترغب في التحكم فيما ينشر. قبل سنوات ذهبت في رحلة صحفية لزيارة أستوديوهات شركة “يونيفرسال” لمشاهدة افتتاح مدينة الملاهي والخدع السينمائية التي استخدمت في فيلم “الحديقة الجوراسية” وقد أجلسونا في مقاعد الدرجة الأولى في الطائرة وقدموا لنا ما لذ وطاب من الطعام والشراب طوال الرحلة، وأنزلونا في فندق من الدرجة الأولى بل ووضعوا رئيسة قسم العلاقات العامة في الشركة في خدمتنا.

عادة ما يردد مديرو العلاقات العامة في شركات السينما السؤال نفسه: ما رأيك؟ فقد كان رأيهم أن مدينة ملاهي الحديقة الجوراسية هي أعظم مدينة من نوعها في العالم. وكانت الإحصائيات لديهم جاهزة للبرهنة على ذلك. ولكنّهم لم يعرفوا أن رأي الصحافيين لا يتكوّن إلا بعد الانتهاء من المشاهدة الفعلية وبعد نهاية الرحلة. وسأل أحد الصحافيين ما إذا كان ممكنا أن يأخذونا في جولة داخل ديزني لاند، وهي مدينة الملاهي المنافسة لمدينة يونيفرسال. وغضبت مديرة العلاقات العامة من الاقتراح لدرجة أنها لم تستطع الرد على الصحافي. وبعد استشارة زملائها جاءت الإجابة بالرفض. وقد رفضوا أن يسمحوا لنا حتى بزيارة وسط لوس أنجليس لأنهم رأوا أن هذا الجزء من المدينة ربما لا ينعكس إيجابيا في مقالاتنا الصحافية عن الرحلة.
المدينة الجوراسية

بعد يومين من إعدادنا للحدث المنتظر أخذونا أخيرا إلى مدينة الحديقة الجوراسية. ولسوء الحظ لم تكن قد اكتملت بعد ولكن يونيفرسال كانت تأمل أن نكتب عنها كما لو كانت قد اكتملت بالفعل. وقالوا لنا إن المدينة الجوراسية أكبر من مجرد مدينة للملاهي، بل “تجربة” كبيرة، وكجزء من هذه التجربة الكبيرة قررت الذهاب إلى المقهى الجوراسي لكي أتناول سندوتشا من البرجر الجوراسي. وأخذت أتحدث مع رجل جوراسي كان يقوم بالخدمة في المقهى. كان شابا وسيما وممثلا عاطلا عن العمل يعمل في المقهى مقابل أجر زهيد إلى حين يعثر على عمل في السينما. وأخذت أسأله عن أجره وعن طموحاته السينمائية، وفجأة وجدت مديرة العلاقات العامة تجذبني من ذراعي وتجرني بعيدا وهي تقول لي “لا أعتقد أن هذا الشخص يمكنه أن يساعدك كثيرا في كتابة مقالك الصحافي. عدني ألا تنشر شيئا مما قاله لك”.
وبعد عودتي من الرحلة نشرت مقالا شديد النقد للنظام الشمولي في يونيفرسال. وكان من السهل أن أفعل ذلك بحكم أنني أتمتع بوظيفة دائمة في الصحيفة التي أكتب لها، ولكن المشكلة أن معظم الصحافيين الذين يذهبون في رحلات مثل هذه هم من الصحافيين الذين يكتبون بالقطعة، وهم يحرصون بالتالي على دعم علاقاتهم بشركات الإنتاج، فإذا طلبت منهم يونيفرسال عدم التحدث عن شخص قابلوه في مقهى ما فإنهم يحرصون على الالتزام بذلك.

إن ما تفعله شركات الإنتاج إذن أنها تلتفّ حول الصحف وتمنح بعض الصحافيين من الذين يكتبون بالقطعة المقابلات الصحافية بشكل مباشر. وهم يقولون لنا إن هذه الطريقة هي الأفضل لأن هؤلاء يمكن الاعتماد عليهم أكثر. وهذا صحيح، وللأسف فمعنى أنه يمكن الاعتماد عليهم أنهم ينقلون بشكل مباشر، المادة الصحافية الجاهزة التي تتضمنها المطبوعات الدعائية التي توفرها لهم شركات الإنتاج للترويج لأفلامها دون محاولة لتكوين رأي خاص بهم.

صديق لي حضر مؤخرا حفلا صحافيا أقامته شركة وورنر أطلقت عليه “أول مؤتمر عالمي للتلفزيون”. وقد قصدت وورنر بذلك أن الصحافيين المأجورين يستطيعون قضاء ثلاثة أيام في صحبة نجوم فيلمي “إي آر” و”أصدقاء” ثم يعودون إلى بلادهم وهم يحملون بعض المقالات الدعائية لبيعها. إنه “اتفاق جنتلمان” فشركة وورنر تحصل على الدعاية التي تلزمها، والصحافيون إياهم يحصلون على بعض المال مقابل كتاباتهم. وبالطبع عليهم جميعا أن يحددوا مسبقا للشركة الصحف التي سينشرون فيها مقالاتهم، وتملك وورنر حق “الفيتو”.
في بلاد الحرية

قد تم تقديم صديقي هذا إلى نجوم فيلم “أصدقاء”، وقيل للجميع إنهم يستطيعون توجيه الأسئلة كما يشاؤون “فأنتم في بلاد الحرية”. وكانت ليزا كيدرو قد اختيرت لتوها أكثر شخصيات الفيلم شعبية. ووجه صديقي إليها السؤال التالي: كيف تشعرين بعد أن أصبحت أكثر شخصيات الفيلم شعبية؟ وهنا قفزت موظفة العلاقات العامة قائلة “أعتقد أنني أستطيع الإجابة عن هذا السؤال بالنيابة عن ليزا. إننا جميعا نشعر بالألفة مع بعضنا البعض كثيرا جدا!”. ولكن هذه هي أميركا. في بريطانيا نحن أسعد حظا، ففيما عدا استثناءات قليلة فإن كل المقابلات التي تقرؤونها في “الجارديان” هي مقابلات تمت بشكل مباشر: صحافي واحد يجري الحديث مباشرة مع النجم أو المخرج. أما في أميركا فقد يشترك عشرة أو خمسة عشر صحافيا في إجراء مقابلة صحافية مع شخصية واحدة. فهل يستطيع الصحافي أن يكتب في مقدمة موضوعه أنه قضى عشرين دقيقة في انتظار أن يوجه سؤالا واحدا؟ نعم يستطيع أن يفعل ذلك، ولكن من الذي سيرغب بعد ذلك في قراءة المقابلة.

إن كل قارئ وكل رئيس تحرير يريد أن يشعر أن أمامه مقابلة خاصة نادرة أو قطعة من روح النجم السينمائي. شركات هوليوود ترى أن هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة، فمع الإقبال على إجراء المقابلات الصحافية مع النجوم يجب تنظيم مقابلات جماعية لعدة صحافيين وإلا كيف يمكن الاستجابة لكل هذا العدد. وبسبب صعوبة تنظيم هذه المؤتمرات أو اللقاءات الصحافية الجماعية يصبح من الضروري التحكم فيها مسبقا. ويصبح أمرا طبيعيا بالنسبة إلى الصحافيين المتحلّقين حول المائدة أن يتم إسكات ذلك الصحافي المشاغب الذي لا يفتأ يكرّر أسئلة بعيدة عن الموضوع حسبما ترى مندوبة العلاقات
العامة.

ربما تقول لنفسك: إننا أسعد حظا في إنكلترا العجوز فليس لدينا نجوما كثيرون، وعندما نجري معهم مقابلات صحافية فإننا نجريها حسب شروطنا نحن.. أليس كذلك؟ ليس تماما. أولا هناك عملية تدقيق شديدة، فقد يتصل بك مندوب الصحافة أو وكيل الفنان لكي يقول لك مثلا: سيمون.. هل يمكنك إرسال بعض النسخ من مقالاتك المنشورة إلى مستر ألبرت فيني لكي يلقي نظرة عليها. ثم يتضح أن المستر ألبرت فيني ألقى نظرة سريعة عليها ولم يعجبه ما تتضمنه، وإذن فلن تحدث المقابلة.

قد تقول لنفسك: ولكننا نستطيع أن نلتقط صورا خاصة بنا للفنانين.. أليس كذلك؟ إلى حدّ ما. فقد أصبحت شركات الإنتاج والتوزيع تعرض علينا صورا التقطها مصورو الشركة أو المصور الخاص للنجم. أما صورنا الخاصة فينبغي أن نحصل على تصريح منهم بنشرها.

على الأقل (ستقول لنفسك) نحن في إنكلترا غير مضطرين للتجمع حول مائدة مستديرة ضمن حشد من الصحافيين للاستماع إلى ما يتعطف علينا به نجم سينمائي. هذا صحيح لكن معظم المقابلات الصحافية التي تقرأها في هذه الصحيفة أجريت في فنادق. وتحديدا في فندق دورشستر، لدرجة أنني كنت أتصور أن فندق دورشستر أبرم اتفاقا تجاريا مع شركات السينما. إن هذا يخلق جوا كان بريخت سيسعد به كثيرا ويأخذ في تذكيرنا بعدم واقعيته طوال الوقت.

أحيانا تستطيع أن تقابل النجم في غرفته بالفندق، ألا يبدو هذا رائعا أو مغويا، أو على الأقل مشبعا للغرور؟ كلا. إنه أمر يسبب الحرج، فالصحافي في موقف كهذا يتحول إلى شخص متطفل بمجرّد دخوله إلى الغرفة. ولا عجب إذن أن يصبح النجوم عادة عدائيين تجاه الصحافة ويرفضون التحدث إلى الصحافيين (رغم أن عقودهم تنص على عكس ذلك).. وهنا يبدأ الصحافيون في تخمين من الذي سيرقد في الفراش ومن الذي سيبقى جالسا أثناء إجراء المقابلة!

ولكن على الأقل عندما نصل إلى النجم نستطيع أن نوجه له ما نشاء من أسئلة. أليس كذلك؟ أحيانا.. فغالبا ما يناولك مندوب العلاقات العامة أثناء اجتيازك عتبة باب الحجرة قائمة بالمحظورات. الشركات تقول: إننا نريد أن نحمي نجومنا.. لا نريد أسئلة استفزازية. وأنا أقول: ولا أنا أيضا، لكن أفضل الكتابات تلك التي يستطيع الكاتب أن يقبض فيها على ثنايا موضوعه، وأن يربط بين أجزائه. تقوم شركات الإنتاج بتوزيع مقابلات تلفزيونية مصورة معدة سلفا مع نجوم السينما من خلال أسئلة وأجوبة بارعة. تستطيع محطات التلفزيون التعامل مع هذه المقابلات وإعادة تقطيعها وترتيبها بحيث تجعل النجم يبدو وكأنه يتحدث إلى مقدم البرنامج بشكل شخصي ويجيب عن أسئلته. وماذا عن المقابلة الصحافية التي أجريتها مع ليوناردو دي كابريو؟ لقد نشرتها تماما كما تمّت، ولم يحدث من قبل أن تلقيت ردود فعل إيجابية من مسؤولي العلاقات العامة كما حدث هذه المرة. لقد اتصلوا بي تليفونيا، واحدا وراء الآخر، وهتفوا “عظيم.. يالها من خبطة.. لقد كان رائعا أن نقرأها كما وقعت بالضبط”. وواحدا بعد الآخر أكدوا لي أنهم سيحرصون على ضمان ألا أدعى إلى أيّ حفل من حفلاتهم في المستقبل!

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى