موريسيو كاتيلان مشاغب الفن المعاصر

أبو بكر العيادي

الإيطالي موريسيو كاتيلان فنان إشكاليّ بالمعنى الواسع للكلمة، داوم الجمع بين الجدّ والهزل دون أن يستقر على حال، فيتبدّى أحيانا في ثوب الثائر على القيم السائدة، الساعي إلى كسر النمطية القائمة واقتراح الجديد المبتكر، ولكنه يبدي في أحيان أخرى شطحات غريبة لا يروم من ورائها غير الإثارة، ويأتي سلوكيات صبيانية جعلته ينعت بأبله قرية الفن المعاصر، أو بوستر كيتون الفن المعاصر.

ذلك أن موريسيو كاتيلان لا يتورع عن تجسيم كل ما يخطر بباله، ولو كان سخرية من البابا وما يمثله في مخيال المسيحيين، كما تشهد على ذلك منحوتته “الساعة التاسعة” التي تظهر البابا يوحنا بولس الثاني واقعا على الأرض مجندلا بنيزك سماوي.

جاء كاتيلان إلى الفن عن طريق الصدفة، فهو عصامي، عانى الأمرّين منذ ولادته عام 1960 بمدينة بادوفا، وزاول أعمالا هامشية كثيرة لمساعدة أبيه سائق اللوري، ثم لكسب عيشه لما اشتدّ عوده، لعل أغربها حراسة مشرحة.

وفي مطلع الثمانينات صنع قطع أثاث طريفة مكّنته من التعرف على بعض الشخصيات الهامة في مجال الديزاين مثل إيتوري سوتساس ومجموعة ممفيس، وولّدت لديه فكرة إعداد “كتالوغ” أرسل منه ألف نسخة إلى شتى الأروقة للتعريف بإنجازاته، فجاءته من بعضها ردود فتحت له منفذا إلى عالم الديزاين والفن المعاصر، ولم يجد صعوبة بعدها في شق طريقه، إذ اعتمد أساسا على طبعه الميال إلى السخرية والاستفزاز ولفت الانتباه، مثلما اعتمد على استغلال ما يزخر به الواقع من تناقضات مثيرة.

اختار أن يخالف قواعد الفن السائدة، ويقدم أعمالا طريفة تبرز ضيق المجتمع وانقساماته، ويشرع للفن أبواب حرية غير مسبوقة.

غايته أن يصبح حديث الناس، ولو بالتركيز على حركاته المثيرة، وتحويله أحداثا معلومة وشخصيات معروفة تحويلا يجر بالضرورة تعاليق مؤيدة أو منددة.

كان لا يتردد في إحداث المفاجأة حيثما حلّ، كإقدامه على غرس أشجار زيتون في حدائق عدة مؤسسات، أو التجول في الشارع مقنّعا برأس ضخم لبيكاسو، أو عرض نعامة محشوة بالتبن -في الهواء الطلق- ورأسها مطمور تحت الأرض، أو بعث رواق فنون أطلق عليه اسم “مؤسسة أوبلوموف”، بطل رواية الروسي إيفان غونتشاروف (1812-1891) ورمز الكسل والخمول. وهو ما عبّر عنه لاحقا عند الحديث عن أسلوبه، حيث وصفه بالكسول، القريب من الكوميديا العبثية.

أو يسخر من أعمال فنانين آخرين كما فعل مع الأرجنتيني لوتشو فونتانا، حيث خط بمشرط على إحدى اللوحات حرف Z (وهي الطريقة التي كان يتوخاها فونتانا) وكتب أسفلها “زاي مثل زورو”.

وفي وقت وجيز نسبيا، لم يتوصل كاتيلان إلى تسجيل حضوره في مدونة الفن المعاصر فحسب، بل صار أحد نجومه، يتسابق هواة التشكيلات في اقتناء أعماله بملايين الدولارات، بفضل ما تحويه من إيعاز بالضحك الساخر، رغم أنها توحي بالخوف من الموت وفظاعة العالم وفساد الأنظمة.

أعمال موريسيو كاتيلان مليئة بالضحك الساخر، رغم أنها توحي بالخوف من الموت وفظاعة العالم وفساد الأنظمة
وإذا كان النقاد يرون أن جانب القوة عنده هو تركيزه على الصدمة البصرية، كعامل ضروري للوصول إلى الجمهور، كما يتجلى في “هُوَ” التي تمثل هتلر صغيرا، و”بلا عنوان 2007” وتظهر حصانا غاص رأسه في جدار، فإن كاتيلان لا يعتبرها ضرورية، بل إن الدوام في رأيه هو الذي يكون له معنى أكبر، فهو التحدي الحقيقي في عالم تغمره الصور من كل جانب، في كل لحظة.

ومن ثَمّ فهو يسعد كثيرا أن تغذي أعماله خيال الجمهور ولو لثانيتين، وعمل الفنان يعالج على الدوام مسألة سلطة الصور، لأن إمكانية الديمومة هي التي تعنيه، فغايته كما يقول هي “إذهال ذهن الآخر، ومحاولة الاستحواذ عليه، ولو لزمن محدود”.

قد تحيل بعض أعماله على تلوينات أندي وارول، الذي يرى بعض النقاد أن كاتيلان متأثر به إلى حدّ ما، بيد أن أعمالا أخرى تجد جذورها في تمرد مارسيل دوشامب، على غرار “أميركا” وهي عبارة عن مرحاض من ذهب، أراد كاتيلان من خلاله إدانة الحيف في توزيع الثروات، إذ تملك نسبة 1 بالمئة من سكان الأرض 99 بالمئة من ثرواتها، “ولئن احتاجت مبولة دوشامب إلى الظهور والخروج إلى الناس لإدانة ما ينبغي إدانته، فإن الحلقة اكتملت، ولا بد للمبولة من أن تعود إلى مكانها، أي بيت الراحة”.

ورغم هذا الملـمح المشاغب والمستفز في شخصية موريسيو كاتيلان، فإنه لا يعدم إلماما بالحركة الفنية، التي يعتبر سليلا لها مهما جمح به تمرده، وإدراكا لمعوقات تجديد العمل الفني بعد أن ظهرت أنشطة حديثة تزاحمه في ريادة التجديد، كالطبخ مثلا، وقد غزت برامج الطبيخ التلفزيونات، مثلما اجتاحت المطاعم العالم، إضافة إلى الهندسة المعمارية التي صارت تخطط لعمارات بديعة بحاسوب.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى