«مدمنة الجنس» للدنماركي لارس فون تريير: الاحتفاء بالشهوة
نسرين علام
«هذا التعاطف الذي تزعمنه كذب لأنكن شرطة الأخلاق في المجتمع، الذي يجد أن واجبه هو أن يمحو فحشي من على وجه الأرض حتى لا تشعر البرجوازية بالغثيان. أنا لست مثلكن. أنا مدمنة للجنس وأحب نفسي لأنني كذلك. وفوق كل شيء أحب عضوي التناسلي، وأحب شهوتي القذرة البذيئة».
هكذا تصيح جو، (شارلوت غانزبور) بطلة فيلم «مدمنة للجنس» «Nymphomaniac» (2013) للمخرج الدنماركي لارس فون تريير، بفخر وغضب في جلسة أجبرت على حضورها من قبل عملها لتصبح كباقي النساء، هؤلاء النساء اللاتي يتبعن ما يحسبه المجتمع الأسلوب اللائق للمرأة في العيش والتصرف. ترفض جو أن تكون فردا في القطيع أو أن تكون واحدة من هؤلاء النساء اللائي لا يعبرن عن رغباتهن الجنسية ولا يسعين لتحقيقها.
جو امرأة كل ذنبها المجتمعي أنها تحب الجنس وتحب التجريب فيه ولا تخشى من شهوتها وتعلنها صراحة وتسعى لتحقيقها. هي امرأة قوية جريئة لا تخشى المجتمع أو نظرته، أو فلنقل لا تلقي بالا للمجتمع. إنها امرأة ترفض أن تتقولب وترفض أن تسكن الصورة التي يرضاها المجتمع، وتستمتع بشهوتها الجنسية، على الرغم من الدمار الذي يحيق بها جراء ذلك.
ما نراه في الفيلم هو رفض المجتمع أن يقبل بوجود مثل هذه المرأة المتحررة جنسيا. نرى جو دوما في مواجهة قوة غير مرئية لا تلين ترفض وجودها كامرأة تحب الجنس، قد تتمثل هذه القوة في الإحساس الدفين بالذنب الذي يولده المجتمع لديها لأنها تترك ابنها الصغير بمفرده للسعي للتحقق الجنسي. يتركها جيروم (شيا لابيف)، الرجل الذي أحبته وتزوجته، لأنها لم تكن الأم الصالحة، كما يراها المجتمع، ويشيطنها المجتمع لأنها كانت تسعى وراء رغبتها الجنسية. تصبح جو منبوذة اجتماعيا ومعاقبة في مجال العمل لأنها جامحة جنسيا. حتى جسدها ينقلب عليها ويعاقبها. فجأة تجد جو نفسها غير قادرة على الحصول على النشوة الجنسية. طوال الفيلم نجد أنفسنا أمام ما يذكرنا دوما أن النساء كما يراهن المجتمع يجب أن يعاقبن للاستمتاع بالجنس ولتعدد علاقاتهن الجنسية. لا نرى أي سعادة أو بهجة تحصل عليها جو من هذه الرغبة الجامحة في الجنس، كأنها هي شخصيا تشبعت بتصور المجتمع لرغبتها ويرفض جسدها الحصول على البهجة والنشوة التي يفترض أن يمنحها الجنس.
في مراهقتها تشكل جو وصديقتها المقربة رابطة للفتيات المتحررات جنسيا، اللاتي يعلين الجنس على الحب، كما يرينه في القصص الرومانسية الوردية التي تفتن الصبايا في سنهن. إنهن فتيات يرفضن تصور المجتمع للحب وللمرأة للعلاقات العاطفية والجنسية. ولكن إحدى الصبايا تتمرد على قواعد الجماعة، وتقع في الحب، وتهمس في أذن جو «المكون السري للجنس هو الحب». إن كان فيلم فون تريير فيلما هوليووديا تقليديا، لكانت هذه اللحظة في الفيلم اللحظة التي «تتوب» فيها جو عن جموحها وتمردها، لتصبح كغيرها من النساء اللاتي يقبلن ما يمليه عليهن المجتمع. ولكن جو ليست هذا النوع من النساء: إنها المرأة التي تمارس الجنس وقتما شاءت مع من تشاء.
تدور أحداث الفيلم في ليلة واحدة، ليلة عيد ميلاد جو الخمسين، بعد أن يعثر عليها رجل يدعى سليغمان فاقدة للوعي مصابة بالكثير من الكدمات، فيدعوها لبيته حتى تلتقط أنفاسها وترتاح ليلتها، تقرر جو أن تقص على ذلك الغريب قصتها وقصة حياتها الجنسية. «يصعب في بعض الأحيان أن تكون المرأة امرأة، ولكن يصعب طوال الوقت أن تكون المرأة امرأة تحب ممارسة الجنس بكثرة»، هكذا يقول سليغمان، ذلك الرجل الذي يبدو لنا للوهلة الأولى فلسفي النزعة وهو يستمع إلى اعترافات جو الجنسية، ويبدو أن هذه العبارة تلخص بالفعل حياة جو.
عندما تقص جو على سليغمان كيف قررت في سن المراهقة أن تختار جيروم ليكون الرجل الذي يفقدها عذريتها، وأن أول ممارسة جنسية لها معه كانت في ثمانية إيلاجات، ثلاثة من الأمام وخمسة من الخلف، نجد سليغمان يأخذها في حوار فلسفي عن تتابع فيبناتشي للأرقام، ذلك التتابع الذي نرى أمثلة له تعبر على الشاشة أمامنا. وتتواصل بعد ذلك محاولات سليغمان للتفلسف والتقعر في محاولة لتفسير حياة جو الجنسية وفي محاولة لإبداء الفهم والتفهم لشخصيتها. تتراوح تفسيرات سليغمان لشهوة جو من صيد الأسماك إلى قصص إدغار ألان بو إلى موسيقى باخ إلى تناول أحد أنواع الحلوى بالشوكة والسكين.
ترى هل يستخدم فون ترير سليغمان للسخرية من محاولات الرجال فهم الحياة الجنسية للمرأة ولرغباتها؟ ترى هل يمثل سليغمان أب الاعتراف في الكنيسة والمؤسسة الدينية، تلك المؤسسة يبدو أنها تتفهم وتعفو تغفر ولكنها في الواقع لا تفهم شـــــيئا وتدين وتصدر أحكاما عما يصح وما لا يصح؟ ترى هل يمثل سليغمان المجتمع بوجه عام، ذلك العام الذي يتغنى سطحا بالمساواة بين الرجـــــل والمرأة، ولكــن إن أرادت هذه المرأة المساواة في الحقوق الجنسية، تتحول في نظره إلى امرأة مشاع متاحة للجميع، يحــــق لسليغمان أو غيره أن يفرض نفسه جنسيا وجسديا عليها؟ الإدمان يعني انتفاء قدرة الإنسان على الســــيطرة على ذاته وأفعاله، فهو يصبح عبدا لما أدمنه، وجو تصيح بكل ما أوتيت من قوة في جلسة الإقلاع عن الإدمان التي أجبرت عليها إجبارا أنها ليست مدمنة. جو، كما أراها واحترمها، امرأة اتخذت قرارا واعيا أن تعيش حياتها الجنسية كما تريد، أن تعيش كل أحلامها ورغباتها الجنسية مهما كان جموحها.
إنها امرأة لديها من الشجاعة والقوة أن تواجه تبعات اختيارها، وتختار أن «تسقط» وفقا لمنظور المجتمع، لأن المجتمع لا يعنيها ورأيه لا يعنيها في شيء. تختار عالم الجريمة لتكسب المال، لأنها اتخذت قرارا واعيا أن تتحدى مجتمع الوظيفة والعمل، ذلك المجتمع الذي رفضها فقابلت الرفض بالرفض والتحدي بالتحدي.
(القدس العربي)