أسئلة الإقصاء في الجماعات الثقافية…

رامي ابو شهاب

على الرغم من أن الهدف من الثقافة يتحدد بكونها تعدّ مجالا للتأكيد على إنسانية الإنسان، والارتقاء به، غير أنها غالباً ما تتحول إلى أداة لتكريس نزعة هوياتية تنهض على فروقات وتمايزات بهدف تقديم الاختلاف المطلق، من مبدأ أن لكل جغرافيا صوتها الثقافي الذي يعبر عن هويتها وتكوينها.
ولهذا تشتغل الثقافة بوصفها مجالاً حيوياً لبناء مكونات، تتخذ في بعض الأحيان سندا تاريخيا يتم تلفيقه أو التنقيب عنه كي يكون فاعلا ساردا أو»سرديات» تضطلع بخلق هوية ثقافية ماضوية، بالإضافة إلى كونها ذات طابع محايث، غير أن هذه العملية غالبا ما يشوبها البحث عن الامتيازات الاقتصادية في ظل وجود مفهوم إدارة المؤسسة الثقافية، التي تسعى لإنتاج بعض المثقفين كي يكونوا أداة أو ذراعاً لخطاب مؤسساتي، هدفه الترويج لهوية ثقافية.
وبما أن المؤسسة مرتهنة لمبدأ سياسي واقعي، فضلاً عن الجهل في بعض الأحيان، فإنها غالباً ما تسند هـذا الأمر لإدارة «غير ثقافية» تسعى إلى الإبقاء على وجودها من خلال إنتاج وهم الثقافة الذي يحتاج إلى مثقف يعمل بوصفه أداة تنظيمية، ولكن كيف يتحقق ذلك؟
غالباً ما تُناط الثقافة سلطوياً بأداة ذات طابع وظيفي واجهته ثقافية، ولكن جوهره خاضع لتشكيل سياسي، ومن هنا تقوم المؤسسة الثقافية بتقريب أسماء، في حين تُقصي أسماء أخرى، وفي أحيان أخرى يبدو الأمر اعتباطياً خاضعاً لأهواء من يدير الثقافة. فالناظر في الثقافة العربية لن يعدم تمظهراً مصغراً لأنساق الإقصاء المعتمدة في كافة قطاعات العالم، ولاسيما غير الديمقراطية، فكما هي تراتبية القوى، ثمة تراتب ثقافي، وجماعات تتخذ من المركز موقعاً لها، في حين تتشكل جماعات ثقافية في الهوامش أو على الأطراف، وهنا تبدو المعضلة في تحديد التعريفات المحددة للجماعات الثقافية، ما يدعونا إلى التزام منظور خطابات الجماعات المهمشة، تبعاً لفكرة الهيمنة كما ينص عليها غرامشي، ولكنني هنا أسعى إلى الوقوف على توصيف خلل ثقافي ناشئ عن تمثيلات الثقافة العربية، ونعني على مستوى المؤسسة، حيث تنشأ الثقافة بين مجموعة من المثقفين العاملين في الثقافة ضمن تشكيلات متعددة، جماعات من المبدعين والفنانين، والصحافيين والأكاديميين، وبغض النظر عن التصنيف المهني، أو الفني، فهنالك ممثلون للمؤسسة بكافة أطيافها، وتمظهراتها المهنية، غير أن هذه الثقافة تبدو تمثيلاً مدروسا ً بعناية، إذ يخضع لمجموعة من الارتهانات والأيديولوجيات والمواقف التي تتعدد وتتلون تبعاً لخط الدولة أو المؤسسة الرسمي، وإن كان هذا يبدو أقل إشكالية كونه واضح المعالم، حيث يمكن أن نميز بين المثقف الذي يبدو جزءا من المؤسسة، ولكن بلا مخالب ثقافية، وبين المثقف الحقيقي، ولا نريد أن نقول المعارض، فثمة مثقفون صامتون في الغالب، لا يعبرون من خلال صمتهم إلا عن احتجاج ناعم.
إن الإشكالية تتخذ طبيعتها من المعايير التي تجعل من طبقة من المثقفين الحائزين مناصب ثقافية رفيعة، أو الذين يتصدرون الواجهة الثقافية بوصفهم معبرين عن الوجه الثقافي، ولكن الحقيقة بأنهم لا يعبرون إلا عن سلطة الثقافة، ولاسيما أن ثمة جزءاً كبيراً منهم لا يمتلك الأدوات، ولا النتاج الثقافي، سواء أكان أكاديمياً، أو إبداعياً. وهكذا فهم لا يمثلون إلا ثقافة المؤسسة، لا ثقافة الأمة، أو الحضارة بغض النظر عن الحدود والتصنيفات السياسية، وهنا تكمن المشكلة حين تضعف الثقافة العربية نتيجة ممارسات مثقفي المؤسسة، الذين لا يعبرون حقيقة عن واقع الثقافة العربية كونهم قد نالوا «حق الوصول» حسب تعبير بيير بورديو، تبعاً لتضافر عدة عوامل.. لا تخرج عن المرجعيات العائلية والقبلية ونظام المحاصصة، والتوريث، والصداقات، والشللية، والذكاء الاجتماعي، في حين أن هنالك جزءاً كبيرا منهم يتقن استثمار المنصات الرقمية المسؤولة عن إنتاج ثقافة بائسة، وهكذا فإن الواجهة الثقافية أصبحت محصورة في أسماء لا تتصل بالثقافة، من خلال منتج حقيقي، بل فقط من خلال قشور الثقافة، حيث لا يتناسب المنتج الثقافي مع الظاهرة الثقافية، التي تكون شديدة التواضع، إن لم تندرج في خانة السخف والمراهقة الثقافية.
هذا النهج يسير بموازاة الواقع الاجتماعي المتردي عموماً من فقر ومحسوبية، وغير ذلك من أمراض العالم الثالث، وهكذا فلا جرم أن تنشأ على الهوامش ثقافات بديلة، ربما تستغل هذا الوضع لإنتاج خراب بنيوي في العقل العربي، أو أن يلجأ إلى الصمت، وفي كلا الحالين لا تتقدم الثقافة ولا الإنسان، في حين تصمت الثقافة.
ولعل هذا المبدأ التبادلي والنفعي، يمكن أن يكون مقبولاً – على مضض- حين يتخلل بنى اقتصادية ومصالح ومواقع عمل، يمكن التكسب من خلالها، ولكن حين يتحول إلى الثقافة فإن ثمة خللاً عميقاً في بنية العقل الثقافي الذي من مهامه نقد الممارسات المجتمعية، ولاسيما تلك التي لا تنحاز أو تنشأ عن منظومة قيمية حقيقية، في حين تتخذ هذه الإشكالية وضعاً مضاعفاً من الأزمة، حين ينهض تمثيل ثقافي لا يعبر عما هو أصيل، وهنا يجب النظر أو الالتفات إلى مجموعات المثقفين الذي يقبعون في الأطراف والهوامش، أو المهمشين عن الفعل الثقافي، على الرغم من نتاجهم الإبداعي أو الثقافي، فهم عبارة عن مجموعات تعاني من الإقصاء، نظراً لآليات سلطوية تمارس هيمنة لا على الإنسان وحسب، إنما على الثقافة، وبذلك تنشأ خطابات ثقافية حقيقية تشتغل على هامش الاعتراف، ربما تؤدي ـ في بعض الأحيان ـ إلى إصلاح الضرر الناتج عن ممارسات الثقافة ذات التشكيل القائم على المصلحة والعلاقات، ومع ذلك فإنها تتعرض للتجاهل على مستوى الفرد، أو المجموعة، أو أن يتم تجيير النتاج الثقافي المتميز لصالح المنظومة الثقافية المستفيدة «المؤسسة».
لقد تحدث العديد من علماء الاجتماع ودارسي خطاب الإقصاء والتهميش عن هذه النماذج من اللاعدالة الثقافية في المجتمعات، حيث ينبغي أن تتقدم فئة مختارة على فئات أخرى في المجتمع، وهو ما ينعته ميشيل ببشو بحق النفاذ، حيث تحرم بعض الطبقات، بمن في ذلك المجموعات النسوية، من امتلاك مصادر التصدر الثقافــــي نظرا لحرمانهم من التعليم، أو التمويل، أو الوظائف، أو حتى التطور الوظيفي، وإن استطاعوا بناء ذوات ثقافــــية بشكل فردي، غير أنهم لا يتلقون الرعاية الرسمية ثقافياً. ففي معظم الأحيان لا تمتلك هذه المجموعات حق التعبير أو التغيير الثقافي، كونها لا تملك تصريح دخول إلى الدوائر الرسمية التي تخضع لنظام من العلاقات المحكمة، بحيث ينبغي تدوير الفعل الثقافي تبعاً لمصالح أفراد محددين، هم عينهم ـ ربما- يديرون الذوات الثقافية الأخرى ضمن تصورات لا تخدم إلا ذواتهم الثقافية لا الثقافة.
في الأزمنة الماضية، ونعني قبل عقود، كانت ثمة إلى حد ما ثقافة حقيقية، كما كان التعليم والجامعات والمدارس على قلة الإمكانيات والتقنيات المستعملة حاليا، تقدم نتاجا ومخرجات حقيقية، كما كانت ثمة أسماء لمثقفين حقيقيين، ولكن مع تسلل أنظمة المحاصصة والمصالح الثقافية والمنصات البديلة، نشأ الفساد وانهارت الثقافة، بحيث لم نعد نؤمن بوجود ثقافة، إلا ثقافة الأطراف والهوامش الذي يعملون من خارج أروقة المؤسسات الرسمية.
لا شك في أن الوجود الثقافي بالمعنى المطلق لم يعد خاضعاً لمعايرة الإنتاج الثقافي، ولا الأصالة، ولا الجدة والابتكار، فكثير من الكتاب والمبدعين والمثقفين، حبسوا في الظل لفترة من الزمن، هذا الوضع يكاد يتطابق أو ينشأ مع إشكالية العقل العربي الذي يمارس عداء تاريخياً للعدالة، وتقــــــدير ما هو حقيقي، فلا عجب أن تنشأ هذه الصراعات السياسية التي تعود في منشئها وحقيقتها لهذا الظرف القائم على الإقصاء المجتمعي للمثقفين غير المتكسبين سياسياً واقتصادياً، وبوجه خاص مع غياب القانون القادر فقط على تكريس قيم العدالة، وطالما القانون في غياب فسوف تبقى سلسلة الانهيارات تتوالى على كافة المستويات، ولعل أكثرها خطراً ما يطال منظومات الثقافية التي تعد ركناً من أركان أي نهضة حضارية يمكن أن تقود الأمة إلى درجة من الرخاء والازدهار، ولكن ينبغي أولا تكريس القانون والعدالة لمحاسبة الفساد الثقافي، أو الإنساني.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى