«ايماني بالفن أقوى من احباطات الواقع المحلي»: اليمني ناصر النُصاري: خط الثُلث يُرضي غروري

أحمد الأغبري

يعتقد أن الفنون البصرية، عموماً، لا يمكن لها أن تحقق أهدافها في ثقافة المجتمع، مثلما هي في وعي الفنان، بدون استيعاب جماليات الخط العربي، معتبراً أن (الفن الإسلامي) بتراكماته الحضارية قد صار منهلاً من مناهل الفنون في العالم، وانطلاقاً من هذا الايمان صار مُدرجاً ضمن مناهج أعرق الجامعات والكليات الفنية.
وفي حديثه لـ «القدس العربي» يتساءل رئيس جمعية الخطاطين اليمنيين الفنان ناصر عبدالوهاب النُصاري (1974): لِمَ لم تعترف – حتى اليوم- كثيرٌ من جامعاتنا وغالبية كلياتنا الفنية بالفن الإسلامي والخط العربي ضمن تخصصاتها الدراسية بعد مئات من السنين حضارة تراكمت فناً عريقاً اسمه الخط العربي؟! مُجيباً عن تساؤله: «ذلك دليل على واقع ثقافي عربي متردٍ فنياً…فأنت إن لم تستوعب جماليات فنك الخالص؛ فكيف لك أن تستوعب جماليات فنون الشعوب الأخرى؟! هذا ضرب من العبث! ولكَ أن تنظر حولك وستشاهد أن الفنون لدينا لم تتجاوز كثيراً جدران المعارض والقاعات، بينما شوارعنا وساحتنا تعج بالقُبح؛ ومثل هذا هو نتيجة منطقية لوعي غير سوي بالفنون؛ فالفنون إن لم تعشها حياة فهي ترف».
تعكس تجربة ناصر النُصاري مدى معاناة الخطاطين في اليمن وفي ذات الوقت تمثل صورة مشرقة للمستوى الذي وصل إليه فن الخط العربي في هذا البلد الجريح.
ترك (النُصاري) التعليم النظامي متفرغاً لتعلُم الخط، وأمضى سنوات طويلة في التعليم الذاتي، منكباً على الاشتغال على هذا الفن باعتباره صنعة جمالية فنية، محققاً مستويات متقدمة نال بها الإجازة.
صارت أعماله ضمن مقتنيات عدد من المؤسسات الثقافية في الشارقة ودبي ودول الخليج العربية بالإضافة إلى العراق وسوريا ومصر وتركيا وغيرها من البلدان التي زارها مشاركاً في مهرجانات ومعارض فنية… وعلى الرغم من هذا النجاح خارج حدود بلاده، لم يحظ بأي تكريم محلي، وربما يكاد لا يعرفه الكثير على الرغم من أنه يرأس جمعية الخطاطين…وللتدليل على حجم الغُبن الذي ناله ويناله في بلده مثلما ينال غيره من الخطاطين، فأن اسمه لم يرد ضمن من أسهم في المشروع الفني لمبنى جامع الصالح بصنعاء، وهو أكبر مساجد اليمن (اافتتح في العام 2008م)، على الرغم من أنه أنجز فيه كافة أعمال الخطوط بمساحة يقول إنها تمثل أكبر مساحة خطية ينجزها فنان في مكان واحد في تاريخ الخط العربي موضحاً: «استغرقت مني الأعمال الخطية لهذا الجامع سنتين ونصف سنة، وغطت مساحة 3800 متر، متجاوزة بذلك مساحة الأعمال الخطية في المسجد النبوي الشريف والتي وصلت إلى 2800 متر، ودخلتْ بذلك موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بينما وصل مدى الارتفاع الذي اشتغلت عليه إلى مترين ونصف المتر في القبة الكبيرة، وهو أكبر ارتفاع على مستوى الخط العربي القديم».
من خلال الإمعان في أعمال النصاري يتأكد للمشاهد امتلاكه عين جمالية ذات حساسية عالية لموازين وضوابط الانسجام والتناغم والتركيب والتشكيل مستندة إلى روح شفيفة ووعي عالٍ بحيوية أجسام الحروف وحركاتها وأشكالها وهندستها…وهو ما تدلل عليه «أعمال كثيرة شاركتُ فيها بمهرجانات في بلدان عديدة، منها مشاركتي في مهرجان طباعة المصحف في دبي بثلاثة خطوط لجزء واحد من القرآن وفزتُ بجائزة».
■ لو عدنا إلى بداية تجربتك كيف كانت وعلام اعتمدت في تطويرها؟
□ بدأتُ علاقتي بالخط من خلال تجربتي مع الرسم في المدرسة الابتدائية؛ إلا أن عشقي الحقيقي للخط بدأ خلال المرحلة الإعدادية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ولم أكن حينها أعرف عن الخط ما يعرفه المحترفون من أقلام وأحبار وأوراق خاصة؛ فكل ما كنت أعرفه هو ربط قلمين مع بعض وكتابة الخط العريض مكتشفاً الفروق بين أنواع الخطوط، وهي التجربة التي لم انقطع عنها متدرباً وممارساً، وأخذت معها تنمو أحاسيسي الجمالية والفنية إلى أن التقيتُ بمعلم سوداني اسمه إبراهيم الفاضل الطاهر، وهو كان ضمن البعثة التعليمية السودانية في اليمن حينئذ، ومنه تعلمتُ كيفية كتابة الخط باستخدام القصب والحبر، وقد كان له الفضل في تعليمي الخطوات الأولى وتوجيهي للطريق السليم، واستطعتُ من خلاله أن أتعلم الخطوات الأولى وبخاصة خط الثُلث. وانتقلتُ حينها تجربتي إلى مرحلة جديدة، حيث شُعفتُ بالخط وانشغلتُ به انشغالاً كاملاً لدرجة لم أكمل تعليمي النظامي. كما تعلمتُ الكثير من الدروس من خطاطين آخرين، إلى أن وصل إلى اليمن العالم والمؤرخ في الخط العربي يوسف ذو النون الموصلي، وهو عراقي ومن كبار الخطاطين ومُجاز من حامد الأمير، وهو أحد كبار الخطاطين الأتراك، وبعد أن شاهد أعمالي منحني الإجازة التي هي أعلى رتبة ينالها الخطاط.
هذه الاجازة أعطتني دافعاً أكبر لمواصلة صقل تجربتي وتطويرها بمزيد من العمل والتعلم والممارسة؛ فاشتغلتُ على نفسي قارئاً وممارساً ومتابعاً للدراسات والتجارب الخطية العربية والإسلامية والفنية عموماً…وتفرغتُ للأعمال الفنية الخطية، وبدأتُ اتعلم واشتغل على الزخرفة والخامات مثل الأحبار والأوراق التي اصنعها بنفسي؛ بمعنى إنني صرتُ من حينها اشتغل على الخط كفن.
■ أفهم أنك خلال تجربتك لم تعتمد سوى على التعليم الذاتي قراءةً وممارسةً؟
□ نعم بالإضافة إلى الانتقاد الذاتي لأعمالي اعتمد على ملاحظات واستشارات البعض؛ لأن الخط هو، في الأخير، خدمة للقراءة، وعلى الخطاط أن يشتغل ويبتكر التركيب الذي يجعل من الخط مقروءاً وجميلاً ومُدهشاً؛ وهذا يتطلب اشتغالاً متواصلاً على موهبتك ومهاراتك لإجادة قواعد الخط بكل أنواعه ومتابعة حثيثة لأعمال كبار الخطاطين في العالم والاستفادة من تجاربهم وجديد الدراسات في الفنون ذات العلاقة.
■ معظم أعمالك مرتبطة كثيراً بخط الثلث وهو خط تتجلى فيه مهارة الخطاط لكن ماذا عن تجربتك مع بقية الخطوط؟
□ في خط الثلث يتجلى إعجاز الخط العربي، ومعه أشعر بإحساس مختلف، وفي هذا الخط مهما أنجزت تظل صغيراً كخطاط؛ لأنه فن كبير. كما تتجلى في خط الثُلث عبقرية الفن الإسلامي، إذ له قواعد دقيقة وصارمة ولا يمكن بأي حال أن تتجاوزها…علاوة على أن في هذا الخط ما يرضي غرور الفنان؛ ولهذا أجد أجمل أعمالي هي التي كتبها وأنجزتها بخط الثُلث، ومن أجملها لوحة «فوق كل ذي علم عليم» فقد كتبتها وركبتها تركيباً يختلف عما ركَّبها خطاطون آخرون؛ فبدأتُ من أسفل بكلمة فوق وتصاعدت وصولاً إلى كلمة عليم أعلى اللوحة، وقد عرضتها في الشارقة ولقيت اعجاباً لافتاً.
■ على الرغم مما تناله من احتفاء ومشاركات خارجية لم تنظم معرضاً ولم تنل تكريماً يمنياً… ؟
□ تكمن المشكلة في افتقاد المجتمع والمؤسسات ثقافة ووعي فني تجعلهم يولون هذه الأعمال اهتماماً باعتبارها أعمال فنية بنفس القدر أو أقل مما صاروا يولونه مثلاً للأعمال الفنية الأخرى.
■ في ظل هذا الواقع المحلي كيف استطعت تجاوز احباطاته وصولاً إلى المشاركة والبيع والفوز في مسابقات ومعارض خارجية؟
□ ايماني بتجربتي جعلتني أقوى من احباطات الواقع المحلي كما مكنني من الخروج والمشاركة…لأنني لو انتظرت كنتُ سأنتظر كثيراً، وربما سيقتلني الانتظار مثلما نال من بعض زملائي الذين هجروا فن الخط للأسف.
■ لكن يبقى واقع الخطاطين في بلدك بحاجة إلى حلول عملية …؟
□ يعاني الخطاطون في اليمن مشاكل كثيرة، ولعل أهمها أن فن الخط يحتاج إلى تفرغ وممارسة بينما كثير من الخطاطين لم يعد يمارسه؛ لأن الواقع مؤلم… ومقدمة ونتيجة ذلك كانت وما تزال في المدارس التي تراجعت فيها، إن لم تكن اختفت دروس الخط، وما تبقى يعتمد للأسف على خطوط تقنية، وتصوَّر معي كيف ستكون الذائقة الفنية لأبنائنا تجاه الخط وهم يعتمدون على خطوط الحاسوب؟! بالتأكيد سيكون هذا الخط الحاسوبي هو مقياس تذوقهم، وهنا مشكلة تتراكم وتفرز تجاهلاً لهذا الفن.
■ حسب معرفتي أنك أعددتَ وأصدرتَ كُراسات لتعليم الخط، وبدأتَ بكُراسة خط الرُقعة…لِمَ تعثر هذا المشروع؟
□ نعم؛ كان لي مشروع اصدار وتوزيع كراسات تعليم الخط للمدارس، وبدأته بكراسة تعليم خط الرُقعة في محاولة مني لمواجهة الواقع البائس للثقافة الخطية في اليمن؛ فرأيتُ أن تكون البداية من المدرسة؛ فأعددتُ الكُراسة الأولى الخاصة بخط الرُقعة وطبعتها وبدأتُ توزيعها بسعر رمزي على أمل التشجيع ومواصلة اصدار بقية الكراسات؛ إلا أن المدارس اعتذرت؛ فاضطررتُ لتوزيعها مجاناً ولم أستطع اكمال المشروع.
■ ماذا عن جمعية الخطاطين اليمنيين التي ترأسها؛ ما الذي قدمته لمواجهة هذا الواقع؟
□ الجمعية موجودة ومازالت قائمة، لكنها تفتقد للدعم الذي يجعلها تفتح مقراً تمارس فيها نشاطها.
في اليمن خطاطون كُثر، ومنهم محترفون بدرجة عالية في جميع المحافظات؛ لكن يبقى المشهد العام محبطاً ولا يشجع، فلا مدرسة أو معهد أو حتى تخصص لتعليم الخط والزخرفة في أي جامعة او معهد كفن وعلم وفق منهجية متكاملة، وهذا المبادرة لا يمكن لغير الدولة أن تُمسك بزمامها…وأستطيع أن أجزم لك أن الدولة في اليمن لو كانت أولت الثقافة والفنون ما تستحق من اهتمام لما وصل إليه وضعها ووضع البلاد إلى ما وصلت إليه اليوم من عنف وإرهاب وحرب مدمرة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى