ماكنة لا أعين لها لكنها تذرف الدموع

عمار المأمون

لا تتبع القصائد التي يكتبها أعضاء “ميليشيا الثقافة” العراقية أنظمة الشعر التقليدية، فالقصيدة تنتمي إلى عوالمها الخاصة ومرجعياتها الأدائية التي تعيد مساءلة الواقع جمالياً وسياسياً، فتعيد بذلك ترتيب علاقات القوة بين عناصره، فما كان زهرة أصبح قنبلة يدويّة، ما كان قُبلةً أصبح شفاها مقطوعة لحبيبة تفحّمت.
تحطيم القلم

الشاعر العراقي أحمد ضياء من مؤسسي ميليشيا الثقافة في العراق، وتجربته الفنية تمتد بين الشعر وفنون الأداء، إلى جانب محاولات لإنتاج بنى شعرية مغايرة ومختلفة عما هو تقليدي، إذ صدرت له العام الماضي “مملكة العظام”، وهي مجموعة شعرية تجريبية من ورقة واحدة، في محاولة لإعادة بناء جغرافيا القصيدة خارج تقنية الكتاب/ الديوان. هذا العام صدر له عن دار الانتشار العربي ديوان “الحرب دموعها خشنة” الذي يشبه جمرة خبيثة شعريّة بين دفتي كتاب تنتقل عدواها إلى القارئ بمجرد أن يفتح الكتاب، إذ تبدأ الشرايين بالانقباض وتنشطر القصيدة مُجرثمة كل نفس يأخذه القارئ.

تفترض الكتابة عن الديوان لغة خاصة، إذ هو أشبه بكائن هجين مسيخ يحتاج إلى ترجمانه الخاص، فمن العنوان نقف أمام عتبة للنص تفترض أن الحرب أنثى ولها دموع، هي كائن انفعالي ذو جسد، لكن ما هي مرجعيتنا عن جسد الحرب ذات الدموع الخشنة، أي ماكنة قتل تلك التي يمكن أن تذرف دموعاً؟ وهل هي تبكي، أم تضحك؟ أم أن الدموع لا تنساب من العينين أصلاً؟ إذ يخلخل الديوان من العنوان نظام العلامات التقليدي والواقعي، لتتنوع التقنيات المستخدمة في الكتابة، بين الجمل الشعرية والقوائم والنصوص النثرية.

هذا اللاتجنيس يشابه الحرب، هي عشوائية، لا في بنيتها بل في نتائجها، القاتل معروف شكله وأدواته متسقة، لكن الضحية هي التي تفقد تجانسها الجسدي والعقلي، الأشلاء أو احتمالات الأشلاء هي التي لا تكون متجانسة، وكأننا في لعبة روليت روسيّة، باستخدام قذيفة تنسف حيّاً بأكمله، لا باستعمال مسدس واحد ورصاصة واحدة.

يتعامل الديوان مع الحرب بوصفها حضوراً أنطولوجياً، انقلاباً على مستوى ذريّ، يشكّل ما يسميه جيل دولوز “الطيّة”، انقلابا على كافة المستويات يعيد تشكيل ما نعرفه ويخلخل عناصره، سواء على صعيد الجسد أو على صعيد الواقع اليوميّ. هذه الطيّة تفترض لغتها وبنيتها النحوية والمجازية، لتكون الكتابة أشبه بمن يدوّن بأصابع مقطعة، هو لم يفقدها، فلا ذاكرة له عن الأصابع، هو ولد بعطبه هذا، فللحرب كائناتها، شُعراؤها سابكو أشلاء من يعرفون لخلق إخوتهم وحبيباتهم، حيث يعاد ترتيب الجزيئات ليلتحم الجسد بالفولاذ، الشظايا بالأحلام.
مساحة الذوبان

الشاعر أقرب إلى ناج بنصف جسدٍ يجرجر ما تبقى منه بين كتل من لحم محترق، هو شاهد ما بعد التراجيديا، الحدث الجلل واقع لا فكاك منه، وهو من بقي يعيش مع ندوبه التي أعادت تكوينهم إذ يقول ضياء “شمسُنا ممحاة الأخطاء/ شمسُنا تقصفُنا بالأشعة/ أقدام هوائنا متربة/ عراها الخجل/ تترك وراءها آثارا ممضوغة”.

النصوص في الديوان أشبه بتتمات ما قبل الموت، هي هذر الرأس المقطوع قبل لحظات من فقدانه كل أشكال الحياة، وكأننا أمام نصوص ناقصة لم يتسن لأصحابها تدوينها، هي أصوات فقط، همسات استرق السمع لها من نجا من الانفجار الانتحاري، هو مشلول لكن يتسرب لأذنه بالرغم من الطنين هَمس غيره، بل ربما هو يقرأ شفاههم المحترقة ويمزج وصاياه بتمتماتهم، هي تحوّلات جسديّة شبقيّة تنهب آخر رمق للحياة، هذه الأجساد كسيحةُ عطبٍ تراجيدي إثر العنف الذي شهدته.

مع ذلك هي كائنات هامشيّة تهدد مركزية اللاضحية، هي احتمالات لانفجار يزعزع أمننا المبتذل نحن اللاتراجيديين، إذ يقول ضياء “أقدامي محرارٌ/ أقيس بها، حرارة شفاه اللغم”، فالديوان يتلقط احتمالات تكوّن هذه العناصر، نحن أمام حضور جديد يتجاوز ثنائيّة “إنسان-لا إنسان” ليخلق مساحة جديدة للانصهار يحضر فيها الشاعر كنواة لذوبان اللحم مع الفولاذ ثم تلميع السبيكة الجديدة النابضة، إذ نقرأ “جمراً أقلبُ أسناني، باليتم شاخ جذعي، نادراً ما أراقب الأطفال يلهون بمنخفضات رأسي المتدحرج بين ساقية ونهر. للماء مسافة تأبطها الانتحاري، ككابوس أدخل جوف الظلمة”.

تحضر موضوعة الجسد في الديوان بوصفه متحولا لا كتلة متماسكة، هو يمتد ويتشظّى ليلتحم من جديد مضيفا عناصر غريبة عنه لبنيته الجديدة، ليتساءل ضياء “ماذا يقولُ الجسدُ أمام لغة الحرائق؟”، الجواب نراه فعلا أدائيا، فالجسد يخضع لعلاقات فيزيائيّة جديدة تفصل الحدود بين الأنا والآخر، فـ”الرصاصات التي أطلقت /كضيف/ خجل جسدي أن لا يحتويها”، والجسد “الأنا” هش الوجود، من الممكن إعمَاله في الآخر جسداً وحديداً بمحض الصدفة وحسب اتجاه الريح التي تحمل معها الشظايا، فذرّات الأنا الواعية –الجسديّة- تنحل في هيولى الحطام لنقرأ “يطمُر الجنديّ ما تبقى من هروبه المبقع برسائل حبيبته/ يستلذ الغاطس بتخمة دمي المتدفق في البركة/ يسير بقذائفه/ عودنا على لملمة أجزائنا بمجرف منفانا”، لتبدو الصورة أمامنا أشبه بعراق نحاسي ملتهب، يصهر كلّ من يدوسه.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى