يوميات رحالة تركي في القرن الثامن عشر

مفيد نجم

تباينت مواقف الرحالة العرب والمسلمين في مدوناتهم التي كتبوها بعد عودتهم من رحلاتهم إلى أوروبا، خاصة وأن أغراضها ودوافعها كانت مختلفة، وكانت بداية اتصالهم بها في مرحلة كانت العلاقة فيها معها مشوبة بالصراع.

بعض هذه الرحلات عبرت عن الإعجاب بالتطور الحضاري الذي عاينوه، بينما كشفت رحلات أخرى عن موقف سلبي ذي خلفية دينية، في حين مثلت رحلات أخرى موقفا وسطيا تزاوج فيه الإعجاب بالتطور الحضاري للغرب مع النقد السلبي لمظاهر الحياة الاجتماعية التي تتعارض مع قيم ومفاهيم مجتمعاتهم حول الاختلاط وحرية المرأة.

إذا كانت كتب الرحلات التي اشتهرت هي الكتب التي ألفها رحالة عرب، فإن مؤلفات الرحالة المسلمين ظلت شبه مجهولة، ولذلك يأتي كتاب رحلة باريس التي دونها السفير العثماني محمد جلبي أفندي في القرن الثامن عشر وقام بتحقيقها ودراستها الباحث زيد عيد الرواضية ونشرها “مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية” في الرياض، ساهمة للتعريف بواحدة من تلك الرحلات التي حاولت رصد مظاهر التطور الحضاري والعمراني للمجتمع الفرنسي في مطلع القرن الثامن عشر، وفي مرحلة كانت تتطلع فيه الدولة العثمانية للاستفادة من ذلك التطور الذي تعيشه تلك المجتمعات في تحديث الدولة وتطويرها بعد الهزائم التي واجهتها في صراعها مع بعض دول أوروبا الصاعدة آنذاك.

يتناول الباحث بداية الأوضاع السياسية التي كانت تعيشها الدولة العثمانية في تلك الفترة وانعكاساتها على واقع الدولة وعلاقاتها الإقليمية، حيث جاءت الرحلة التي كانت بتكليف من السلطان العثماني إلى ملك فرنسا. وعلى خلاف كتب الرحلة التي تكشف منذ البداية عن أهداف الرحلة ومكان انطلاقها ومسارها الذي اتخذته يكتفي الرحالة بتحديد تاريخها ومدينة إسطنبول التي انطلق منها بحرا إلى مدينة طولوز في جنوب فرنسا، ومن ثم انتقاله من هناك برا إلى باريس.

 

أهداف الرحلة

 

تدرج الرحالة قبل أن يتم إيفاده في هذه الرحلة في مناصب عديدة كان آخرها المهمة التي أوكلت إليه كسفير مؤقت لدى البلاط الفرنسي دامت مدة عام أرسل بعدها مهمة سفارية أخرى إلى بولندا مع استلام السلطان محمود الأول لمقاليد السلطة. لم يؤلف محمد أفندي هذه الرحلة لكي تكون كتاب رحلة بالمعنى المعروف لأدب الرحلة، بل كتبها كتقرير يقدّمه السفير إلى السلطان وكبار رجال الدولة في نهاية مهمته السفارية لأجل إطلاعهم على ما حققته تلك الدول من تقدم على مستوى مؤسساتها المدنية والعسكرية، لا سيما وأن الدولة العثمانية كانت تعيش مرحلة من الضعف والتراجع على خلاف ما كانت تعيشه أوروبا من نهضة وتطور في كل المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية.

في سياق دراسته لهذه الرحلة يعود الباحث إلى استعراض أقدم وأهم الرحالات العثمانية إلى دول أوروبا مبديا في الآن ذاته استغرابه من عدم اهتمام الباحثين والدارسين العرب بالرحلة السفارية العثمانية إلى أوروبا على الرغم من قيمتها التاريخية والجغرافية، وهذا ما يفسر اهتمام الباحث بهذه الرحلة خاصة أنها كانت ثمرة رحلة سفارية قام بها أول سفير عثماني إلى فرنسا كما يفسر اهتمام الفرنسيين بها من خلال ترجمتها إلى اللغة الفرنسية.

 

الإطار التاريخي للرحلة

ويقدم الباحث مثالا على أثر هذه الرحلة على الحياة الثقافية العثمانية بظهور أول مطبعة إسلامية في إسطنبول عام 1727 إلى جانب ظهور الطراز الفني العمراني الفرنسي في الزخارف العثمانية وإنشاء الحدائق. لكن اللافت في هذه الرحلة أن كاتبها لم يتحدث عن النتائج السياسية لها في حين نجده يتوسع في الحديث عن مظاهر التقدم العلمي والعمراني والعسكري وعن المراكز الفلكية والهندسة بكثير من الإعجاب ما يدل على الأهداف الأساسية لهذه الرحلة لنقل التجربة النهضوية في فرنسا إلى الدولة العثمانية.

 

منهج التحقيق

 

اعتمد الباحث في تحقيقه لهذه الرحلة على مخطوطين اثنين الأول محفوظ في المكتبة الوطنية في باريس، والثاني موجود في مكتبة هوفتن بجامعة هارفارد إلى جانب استعانته بالنسخة العثمانية، في حين اعتمد في تحقيقه لها الأصول العلمية المتعارف عليها في التحقيق لكي يحافظ العمل على الطابع الذي أراده له المؤلف دون الانشغال كثيرا بالهوامش والتعليقات. وبعد الانتهاء من عملية المقارنة مع النسخة المعتمدة في التحقيق لجأ الباحث إلى تصحيح الأخطاء النحوية والإملائية مع الإشارة إلى الأصل.

أما بالنسبة إلى موضوعات الرحلة فقد قام الباحث بتقسيمها وفقا لموضوعاتها واضعا لكلّ قسم منها عنوانا خاصا لكي يمكّن القارئ من العودة إليها، بينما عمد بالنسبة إلى الأمكنة الواردة في النص إلى إثباتها وتعريفها مع ذكر المصدر في ذلك. ولكي يسهّل على القارئ عملية استيعاب المصطلحات والألفاظ لا سيما العثمانية منها قام بشرحها أيضا.

تتجلى أهمية الرحلة في أنها جاءت في مرحلة تاريخية كانت تشهد فيه ازدهارا للفنون والآداب وانتشار المعاهد التعليمية وترجمة الكتب العلمية الأوروبية إلى اللغة العثمانية، إلى جانب ابتعاد السلطنة عن طموحات التوسع وبالتالي انشغالهم بتنشيط مظاهر الحياة المترفة إلى جانب الانفتاح على نظام الحياة الأوروبي، لا سيما في عهد الصدر الأعظم إبراهيم باشا بهدف الإصلاح والتجديد
والحقيقة أن نص الرحلة في مستهله لا يخرج عن التقاليد المتبعة في تدوين الرحلات إذ يفتتحه محمد أفندي بالبسملة والشكر لكنه سرعان ما يدخل في موضوع الرحلة وزمانها ولكن بإيجاز شديد. ويكشف المؤلف عن التقاليد التي كانت متبعة آنذاك بسبب انتشار الطاعون في تلك الفترة عندما اكتفى قبطان السفينة التي تقلهم بالسلام عليهم من بعيد بينما كانوا يتركوا الغرباء والوافدين إلى فرنسا مدة تمتد بين عشرين وأربعين يوما في حالة حجر صحي.

ولعل ما فعله حاكم طولون عند وصولهم عندما زارهم وهو يستقلّ قاربا من بعيد ما يدل على حالة العزل التي كانت تفرض على القادمين إلى هذه البلاد. لقد اصطحب الرحالة ابنه معه في هذه السفارة التي يظهر طابع الاحتفاء بها من قبل الفرنسيين من خلال الاستقبال الرسمي الحافل الذي أحاطوه وولده به.

 

في وصف مشاهداته

 

بقي محمد جابي مع ولده أربعين يوما في الحجر الصحي انتقل بعده عبر النهر وذلك يظهر بما كان يشاهده من جسور كثيرة وقناطر عالية جرى بناؤها على طول النهر الممتد بين المدن التي كان عليه أن يجتازها حتى يصل إلى مدينة باريس. يركز المؤلف على وصف المظاهر العمرانية الحديثة كالقصور ودار الأوبرا والحدائق بما فيها حدائق الحيوان، وعلى الحياة الاجتماعية لا سيما مشاركة المرأة في العمل واختلاطها مع الرجال إلى جانب الموسيقى والفن والمكتبات ومعامل النسيج والمرايا، لينتقل في النهاية إلى الحديث عن بيوت مدينة باريس وأسواقها باستفاضة وبكثير من الإعجاب حيث يقول “أسواق تلك البلاد واسعة مبلّطة بحجارة وأغلب البيوت مبنية بحجر وأساساتها عميقة، أما هندسة البيوت فهي أجمل وأجمل والنهر المدعوّ سين المجري في وسط باريس يصنع ثلاث جزائر صغيرة وتلك الجزائر هي في وسط المدينة والجسور في غاية البناء والإتقان”.

وكما بدأ حديثه عن بدايات الرحلة بإيجاز كذلك يتحدث عن عودته إلى إسطنبول باختصار شديد يدلل على غايات الرحلة التي كان السلاطين من خلالها يحاولون الانفتاح على الحضارة الغربية والاستفادة من التقدم الحضاري والعلمي الذي بلغته أوروبا.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى