الذرة الرفيعة الحمراء للصيني مو يان

خاص (الجسرة)

ناصر سالم المقرحي

 

أن تروي قصتك , يعني أن تعيش ما تروي مرة أخرى * .
تتأسس هذه الرواية الملحمية على وقائع شبه حقيقية , وهذا برأيي هو سر جاذبيتها وقوتها , حيثُ يستعيد الروائي الصيني مو يان الحائز على نوبل للآداب العام 2012 وعلى لسان الطفل الذي كان , بكثير من الحنين والحيوية والعشق حقبة عاشتها الصين , غير أنه وهو يجتهد في الأقتراب من روح الصين وعظمتها ويلامس ملحمية ما يسرد , يختار قريته لينطلق منها في رحلة سرد تكاد لا تتوقف , يتعرض فيها وعلى خلفية المكان أو النقطة الدالة في الرواية وهي حقول الذرة التي اقتسمت دور البطولة في هذا العمل الروائي الطويل مع باقي الأبطال , متنقلا من حدث إلى آخر بخفة ورشاقة لكل مظاهر حياة أهل القرية وقوانينها الغير مكتوبة , سيرة حياة الأقارب , الأب والجد والأعمام في الحرب والسلم في اليسر وفي العسر ويتتبع بكثير من الوعي والتفصيل والصبر جرائم الأستعمار الياباني ثلاثينيات القرن الماضي وبعضا من مجازره المروعة في تلك الجهات , هذا دون أن يغفل عن تصوير المقاومة والبسالة التي أبداها الصينيون في الدفاع عن أرضهم من خلال تجربة هذه القرية الصغيرة , ضد الغزاة المستعمرين , كما يصور بقلمه الجريء الحياة وسط حقول الذرة في غياب السلطة المركزية حيث الحياة لا تختلف تقريبا عن حياة الغابة والغلبة دائما للأقوى وحياة الإنسان لا تساوي شيئا بلا قوة تحميها في مجتمع صغير تسوده وتتحكم فيه العصابات وقطاع الطرق .
ومع أنني في العادة لا أُحبذ الروايات الطويلة وأُفضِّل تلك التي تتسم بالقُصر والتكثيف والأختصار إلا أن هذه الرواية وعلى الرغم من وقوعها في حوالي الستمائة صفحة من القطع الكبير إلا أنني لم أشعر بالملل ولم أُفكِّر في تركها والتوقف عن مواصلة القراءة لأسباب تتلخص في قدرتها على شد انتباه القارئ وحتى عزله عن محيطه قبل أن يعود أكثر ثراءً وإحساس بالأمتلاء , وذلك عائد بالدرجة الأولى إلى أنها تنطوي على أحداث مشوقة وخط درامي متصاعد , مع أن الروائي لم يلتزم بخط زمني يبدأ من الحاضر ويتجه إلى المستقبل قدما كما هو شائع في القص التقليدي , إذ أنه كثيرا ما يعود إلى الماضي ليضيئه ويأتي بما يعزز من درامية لحظة القص الراهنة .
ولا يكتفي الكاتب بهذه الحيلة والتقنية الروائية بل لجأ أيضاً إلى تفتيت الحاضر وشطره , فكثيرا ما يسير حدثان في ذات الوقت جنبا إلى جنب في الرواية وما أن يستغرقنا حدث معين حتى ينقطع خيط السرد فجأة لينقلنا الروائي إلى حدث موازي ليظل الحدث الأصلي أو الذي بدأ به الروائي مؤجلاً حتى حين , في تلاعب بالنص يشبه وإلى حد بعيد عملية القص والتقطيع واللصق أو المونتاج في السينما التي لا تكتفي بمشهد واحد طويل بل تنتقل الكاميرا من مكان إلى آخر ومن شخوص إلى شخوص وأبطال آخرين لتكتمل في نهاية الأمر التوليفة بعد ضفر هذه المشاهد وفق ترتيب معد سلفاً .
ويُذكر بالمناسبة أن هذه الرواية تحولت إلى شريط سينمائي طويل أخرجه الصيني جانغ إي موو نال به جائزة الدب الذهبية بمهرجان برلين السينمائي الثامن والثلاثون .
وتكفّلَ الطفل هنا بسرد القصة كما أسلفت ولكنه الطفل المختبئ في جلباب الراوي العليم والمهيمن والمنطوي على وعي حاد , لأنه لا يكتفي بوصف الظاهرمن الأحداث والوقائع التي تتشكل في وعيه , بل أنه يغوص داخل بواطن الشخصيات القريبة منه ليضيئها من الداخل , فهو العارف بهواجسها ومخاوفها والعليم بمشاعرها الدفينة التي قد لا تظهر حتى لأقرب المقربين منها في حين أنها متاحة للراوي الطفل الذي لن يتردد في نقلها إلى المتلقي حالما يقف عليها .
” بدأ الخوف يدب في قلب أبي , راح يضغط على رأسه بقوة , وسرت داخل معدته برودة لم يعهدها من قبل , وبدأت هذه البرودة تتجمع حتى سيطرت على جسمه كاملاً وأحس بأنه في حاجة شديدة لقضاء حاجته بل أنه وجد صعوبة في التحكم في بوله الذي كان يتناثر في كل مكان ” .
هكذا يصف الطفل الراوي أباه عند ملاقاتهم أو نصبهم الكمين للغزاة اليابانيين بأحد حقول الذرة , وبالتأكيد الأب لم يجلس بعد ذلك ليفضي إلى أبنه بما أحس به تلك اللحظات وإنما الراوي العليم المتماهي في ضمير الراوي الأصلي هو من أتى بهذا الوصف ورسم المشهد كاملا .
وكون الروائي شيوعياً أفسد سلاسة السرد وانسيابيته بتلك النبرة الأيديولوجية التي لن يجد القارئ كثير عناء في ملاحظتها , ولو التزم الروائي الحياد وأبعد أيديولوجيته عن العمل لكان أفضل في رأيي غير أننا قد نشفع له هذا الألتزام لأن الرواية كُتبت عام 1987 وهو الزمن الذي لم تتفتت فيه كتلة المنظومة الشيوعية بعد ولم يتخلى عنها أساطينها لصالح اقتصاد السوق الحر والأنفتاح على الديمقراطيات في شكلها الغربي – الذي حدث فيما بعد – ولربما كتب الروائي روايته متأثراً بمعتقده وتوجهه الأشتراكي بل هذا ما فعله بالتأكيد .
وعلى طول هذه الرواية التي جاءت في ستمائة صفحة كما أسلفنا فأن اللحظات المجمدة فيها أو تلك التي تبتعد عن السرد لسبب أو لآخر قليلة جدا وهو الأمر الذي زاد من كثافة أحداثها وقام بتوسيعها وأكسبها زخما قل أن نعاينه في أعمال مماثلة , فالروائي نادرا ما ينتبه إلى الوصف أو إلى الحوار الذي كان قليلا في الرواية ولم يصف أبطاله من الخارج ولم يتعرض إلى ملامحهم الجسدية ولما يرتدونه من ملابس مثلا إلا لماماً , في حين تعرض وبإسهاب إلى وصف طبيعة المكان الذي تدور فيه الأحداث وتفنن في رسمه مع أن المكان على تنوعه واتساعه لا يخلو كل مرة من ذكر حقول الذرة الرفيعة الحمراء , وأيضا حشد في هذا الحيز كل الأحداث والوقائع التي مرت بالقرية خلال مدة زمنية محددة حتى تلك التي قد نظن أنها زائدة ما أظهر العمل بهذا الزخم .
وتؤكد الأمكنة والعادات والتقاليد ووصف البيئة وطريقة العيش على أن الرواية صينية بامتياز ولا تعكس إلا ثقافة وروح هذا البلد من خلال النموذج الذي اختاره الروائي وهو ريف أو قرية دونغ بيي بمدينة تاو مي بمقاطعة شانغ دونغ شمال شرق الصين .
وبشكل احترافي كمن شارك فيه وكان شاهدا عليه , وفي تماس مباشر مع ما يُعرف بأدب الحروب أو الأدب الذي يتناول الحرب ويجعل منها تيمة أساسية في تفاصيلهأو حتى بمنحها دور البطولة فتهيمن على مجريات العمل السردي , يصف الروائي الكمين الذي نصبته العصابة التي يتزعمها جده يو جان آو قبل انضمامها إلى قوات الجيش الثامن التابع للحزب الشيوعي الصيني في بداياته لموكب اليابانيين الذي يتكون من عدة سيارات تحمل إلى جانب مفرزة صغيرة من الجنود بعض الإمدادات الغذائية , حيث وبالتفصيل يصف الروائي المعركة التي دارت , مُعززا سرده بوصف حيلتضاريس الأرض التي دارت عليها , ومعالمها الثابتة كالنهر والجسر ونباتات الذرة , ويتتبع مصير كل فرد من أفراد العصابة تقريبا ولم يوقف سرده إلا وهم ما بين قتيل وجريح وناجي من المعركة التي انتهت بسقوط قتلى من اليابانيين وهروب الباقين وفيها اتضحت مهارة الروائي وقدرته على إدارة معركة حقيقية ولكنها على الورق طيلة خمسة وعشرون صفحة من صفحات الرواية أو يزيد , غير أن الصراعات الأهلية ما بين الصينيين أنفسهم كانت هي الأخرى من الضراوة والوحشية ما جعل الروائي يتناولها بشيء من التفصيل في مواضع أخرى , هذه الصراعات التي ليست بالغريبة على تلك البيئة وإنما تعتبر امتدادا لتاريخ من المواجهات والصراعات الداخلية التي مزقت الصين وأودت بالممالك والإمبراطوريات وحكم العائلات القديمة قبل أن تتوحد وتتضافر الجهود للبناء وبعد تاريخ أسود غارق في الدماء والثارات لم ينتشلها من إلا عزيمة الشعب في التأسيس لصين حديثة تقطع مع المظلم من تاريخها وتتآلف مع الناصع من حضارتها , وهو الدرس الذي يجب أن تعيه وتسعى إليه الدول أو الشعوب التي تمزقها الصراعات القبلية والسياسية والمذهبية .
وكانت رواية الذرة الرفيعة الحمراء قد صدرت ترجمتها العربية عن المشروع القومي للترجمة بجمهورية مصر العربية وقام بترجمتها الاستاذ حسانين فهمي حسين , وهي بحسب المترجم في مقدمته , العمل الأول لمو يان الذي يترجم إلى العربية والذي نأمل ألا يكون الأخير .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى